إذا حاولنا أن نسأل
:
هل الشعر يستطيع أن يجعل من الخيال
حقيقة ؟ فسيكون الجواب
:
نعم ،
لكن كيف ؟
فهذا النوع من الخيال هو فرصة للحلم
بالواقع كما قد يُرغب في أن يكون ،
وقد ُيترك لمتلقيه أن يتساءل عما إذا
كان هذا الخيال ممكنا أو ما إذا كان
يحمل أي تشابه مع العالم الحقيقي ومع
ذلك لا توجد حدود للإمكانيات التي
يمكن أن تستحضر خيالنا، كل من هذه
الأفكار التي يتم وضعها على الورق وإن
كانت تفتقر إلى حقيقة موضوعية تخبرنا
حقيقة عن حالة الإنسان الشاعر حينما
يحلّق بعيدا في الخيال.
أديب
كمال الدين حلّق بحرفه هكذا بعيدا إلى
حيث يسكن الماء وهو أحد ديمومتنا على
الأرض في مجموعته الشعرية الصادرة
حديثا " حرف من ماء : قصيدة حب طويلة
" عن منشورات ضفاف في بيروت ، فما
الذي أراده الشاعر هنا حين مزج بين
الحرف والماء ليخرج بقصيدة طويلة عن
الحب؟ إنه باختصار أراد أن يقول لنا
أن الحرف هو أول التنزيل كما الماء
أول الحياة ومنتهاه، أما الحب فهو كل
الحياة إن لم نبالغ في قولنا
لكثرةِ ما أحلمُ بلقائكِ
ليلَ نهار ،
نبتَ لي جناحان من ريشِ الرغبة
ونقاطِ الحروف.
*
لكثرةِ ما أفكر بكِ
صارَ الحرفُ يغارُ منكِ
ويتّهمني بنسيانه
ونسيانِ نقطته الوحيدة
.
*
لم أتركْ شيئاً عنكِ
إلّا كتبتُ عنه قصيدةً أو أغنيةً أو
صرخة.
كتبتُ عن سريركِ الأبيضِ والأسْوَد،
وأغنياتكِ الساذجة،
ودموعكِ التي امتزجتْ بالكحل،
ومواعيدكِ التي كانَ الحلم
يتعلّمُ منها فنونَ القُبْلَةِ كلّ
ليلة،
وأزمنتكِ التي ذابتْ في الماضي
والمستقبل
كما يذوبُ النهرُ في البحر،
واشعلت النارَ في مطلعِ القصيدة
حتّى تحوّلَ إلى رماد.
هكذا يمضي الحرف لديه بين أن يكون
ماءً وحبّاً ، وبين أن يكون حقيقة مع
أنه لامس الخيال كلّ الخيال
.
حين بدأ
أديب كمال الدين
كتابته للشعر
في سبعينيات القرن المنصرم ومع أول
ظهور ديوان له " تفاصيل " عام 1976
أظهر رغبة في أن يكون شعره مالكاً
لبصمة تميزه عما قيل منه ويُقال.
فاختار الحرف موضوعا ومنهلا ليصوغ به
قلائده الشعرية فأصدر
دواوينه
التي بلغت 19
كتاباً جميعها تتحدث عن تجربته الحروفية
هذه. تُرجم بعضها إلى عدة لغات حية
منها الإنكليزية والفرنسية
والإيطالية
والإسبانية والأوردية وغيرها من
اللغات توجها بهذا المنجز الجميل،
ومع أن ما تناوله الشاعر هنا صعب لأنه
غالبا ما تكون لغته غير مباشرة ،
لكننا نعتقد أننا نشعر بها ونتفاعل
معها بغض النظر عن تكاسل بعضنا من
الذين لا يروق لهم هذا الأسلوب من
الشعر فيتجنبوه لأنه يتطلب جهدا أكثر
للإلمام به وبما يحويه من معان.
في
قصيدته "يا حرفي" يمكن لنا أن نتبين
كيف تفاعل الشاعر مع الحرف لينتج لنا
هذا النص الجميل المحكي بطريقة سحرية
:
يا حرفي
لا تتأمّلْ طويلاً في البحر.
كنْ أنتَ البحر.
*
كلُّ نقطةٍ هي حرف،
وكلُّ حرفٍ هو قصيدة،
وكلُّ قصيدةٍ هي وطن.
*
رسمتُ روحي طائرةً ورقيّة
لكنّ الحروب والزلازل والكوارث
سرقت الطائرةَ الورقيّة
ولم تتركْ في يدي سوى خيطها الطويل.
*
وا أسفاه
لم يتبقّ الكثيرُ من الحكاية.
فالشاعرُ ماتَ أو قُتِلَ أو ضاعَ في
مدينةِ اللاأين.
ومع جميع ما حواه الديوان من قصائد
بلغت أربعين قصيدة، نجد الشاعر يبحث
أكثر في تأسيس ما بدأه من حروفية
القصيدة حتى أصبحت علامة دالة عليه
يمكن ان نختتم قراءتنا بأبيات من
قصيدته "ذكرى" ، مع أن مجموعته هذه
تحتاج القول الكثير عنها
من أجلِ أنْ أنامَ ،
مزّقتُ قصيدتي التي كتبتُها عن ذكراكِ
ورميتُها في بئري السِّرّيّةِ، أعني
ذاكرتي.
*
سقطتْ دمعتُكِ فحملتها الريحُ إلى
ذاكرتي.
طارتْ ذاكرتي فحملتْ ذكراكِ إليّ.
يومها تعرّفتُ إلى شيء يُدعى الحرف
الأسْوَد،
أعني السِّحْر الأسْوَد.
*
يا ليتني لم أزح الغيمةَ ليلتها عن
مكانِها
ولم أخرجْ لأراكِ تفيضين وتموتين.
*
بسببِ حُبّكِ المُفاجئ،
بسببِ حُبّكِ المُزلزِل،
صارت الشمس
تغيبُ في ذاكرتي منتصفَ النهار
لكنّها تُشرقُ الليل كلّه!
*
لغتُكِ نبعُ سلامٍ.
نعم
لكنّها حرب على الطمأنينة.
*
لا تتعجّبي من حرفي العاشقِ لكِ أبداً
ومن نقطتي التي نسيتكِ أبداً.
ففي هذه ال(أبداً)
تكمنُ روحُ الشِّعر
وأمطارُهُ التي تتساقطُ
عليَّ.......... أبداً.
**********************
حرف من ماء، شعر: أديب كمال الدين،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2017.
|