شعر أديب كمال الدين بين الوجوديّة والتصوّف

د. صالح الرزوق

لا تندرج تجربة أديب كمال الدين في عداد الحداثة المزيَّفة أو القصيدة– الصدى، غير المبتكرة، التي تستعير ثيابها من خزانة شعراء آخرين.


إنها تجربة أصيلة فقط لأنها تضع يدها على جرح ينزف، وهمّ أسود معطوب استطاع مواكبة كل بكائيات وأحزان هذه المرحلة المأسوف عليها. واستعمل لتحقيق ذلك أهم نغمات اللوعة والندم والتي وظفها الفن على نطاق واسع ، وأقصد بذلك: الزهد والتصوف من طرف، والقلق والضياع الوجودي من طرف آخر.


وإذا كانت توجد عدة نسخ من الوجودية، فهي ملتبسة اليوم مع فلسفة اللامنتمي وكل أشكال ردود الفعل على الحرب العالمية المدمرة وعلى الاغتراب القسري الذي فرضته آليات إنتاج ثقيلة يبدو الإنسان الأعزل بالمقارنة معها مجرد صدى ضعيف لمخيلته.


وأعتقد أن حالة الاستنفار، التي تعيش في ظلها هذه المنطقة منذ حرب عام 1948 وحتى اللحظة الراهنة، قد مهدت الطريق لدخول أطروحات وجودية، كانت الغاية منها استيعاب حالة الشك بالمنهج.


وهذه هي حلقة الارتباط. أو بلغة فوكو نقطة تمفصل الخطاب.
لقد كانت الغاية هي التعبير عن الغموض الذي يكتنف جميع الأدوات، وعن الحقيقة المؤلمة التي كشفت عن عدم التطابق بين الافتراض والبراهين ( بصيغة الجمع). هذا لو سلمنا جدلا أنه يوجد برهان منطقي واحد.


لقد كان تفسير الواقع ينم عن قدرات على التخيل الوهمي من دون أسانيد. و كأن نشاط الذهن هو حكر فقط على تجربة المشاعر أو لنقل على تجربة لا تفهم قوانينها.
و من هذا الباب دخلت أيضا الأطروحات الصوفية، و التي حاولت أن تبذ الوجودية في تفكيك أدوات الواقع الغامض. و كانت بنسخها المتعددة غير بعيدة عن نفس الالتباس الاجتماع سياسي الذي وقعت فيه الوجودية. لم يكن من أولوياتها أن تكون انقلابية و ضد الواقع. و لكن حاولت قدر الإمكان أن تفرض على الرموز الأصيلة، و التي لها منشأ حضاري يتحرك من ضمن أدوات التواصل الشعبية، فواصل معرفتها. و هذا يعني أن تفرض على طبيعة الأدوات المستخدمة حقائق الاغتراب المؤلم. و منها عناصر لها علاقة بالحقبة أو بفترة من التاريخ. مثلا أن يترافق الحصار العسكري المفروض على عاصمة الرشيد بـ (غروب أثقل من الحجر) كما في قصيدة دراهم كلكامش.
و منها عناصر لها علاقة بالملابسات أو ظروف المجتمع كالظروف الربوية التي تحول الإنسان الطيب و الوديع إلى (مقاتل مجنون) كما ورد في قصيدة قطارات سدني.


ولذلك إن الخط، الذي له جذور شعبية، أصبح أصيلا في ذهن النخبة. و من هذه النقطة تضاعفت المشكلة. لقد تحولت من خطاب تأليب و تحميس ( و هذا يمكن تسجيله في حالة فردية هي قصيدته سلاما عمان ) إلى خطاب اعتزال و انتخاب. و تحولت القيمة الاجتماعية للزهد و التقشف و بكل ما تعنيه من إمكانيات مفتوحة لتشكيل بذور للعصيان المدني و لتكوين المجتمع الكونتون أو مجتمع الجيوب، مجتمع القلعة المرعبة ذات بوابات الحديد السميكة ( كما في بيت المعنى ) إلى قيمة شعرية و قيمة - ذات انحصر دورها في ترويض هذه الذات على الموضوعات المدهشة، و على عناصر الرعب و الفراغ التي بدأت تنخر بالضمير الصناعي للحضارة الحديثة ( و هو ما يشرحه بأقل ما يمكن من الرموز و الزخارف في قطارات سيدني و كأنه يكتب خاطرة ) حيث يقول:


كان الموتى في قطارات سدني

يتأملون المشهد بانضباط تام

وهم يتنفسون بصعوبة.


كم في هذا المقطع من استعارات ترجم الواقع الميت و الجحود. الواقع الذي يكون فيه الإنسان ميتا، من غير إرادة، و أيضا من غير قدرة على الانفصال عن حالة الركود و العطالة. و كأن العبارة تلخص جوهرة فكرة ( نهاية التاريخ وموت الإنسان ) كما أنهك فوكوياما نفسه في تثبيتها.
و هذا يعني بالضرورة أن الموقف من عموم الواقع، بما فيه السياسي، انتقل لموقف من انعكاس شمولية عالم المادة إلى فروض و طاعات خصوصية الذات، و من جوانبها السرية المبطنة و العسيرة على التأويل أو التواصل.
و لذلك يمكن القول: إن التصوف المعاصر في حقيقته هو موقف من خبرات الذات غير الواضحة، و التي تحتاج لتأويل بنظر الموجود، أو بلغة عربية مختصرة و مباشرة: هو مجرد شكوى إضافية من الظروف الشخصية لتجارب الشخص المفرد ضد عبثية وجوده، و ضد فوضى تاريخه المفروض عليه عنوة و قسرا.

وهكذا يصبح هذا التصوف شكلا غير مسؤول وغير قانوني من أشكال الوجودية و احتجاجها على مسارها.

المعنى النفسي لحرف النون

على الأرجح إن فكرة التصوف عند العرب و غيرهم تعزو للحروف و للأسماء القيمة الإعجازية نفسها التي يمكن أن نعزوها للرموز. و هذا واضح كالشمس المشرقة في تجربة الشاعر أديب كمال الدين و في مجموعاته المتتالية التي حملت في عنوانها اسم - حرف واحد مثل: جيم، حاء، ميم...
لقد بذل أديب كمال الدين عصارة روحه في حب الحروف و التكهن بمعاني صورها، كما فعل أبو الوجودية هيدجر، و إلى حد أبسط كما فعل الشاعر الشاب الأمريكي شاد دافيدسون . لقد كان يبحث في خصوص الحالة الاجتماعية عن مطلق المعنى الموازي للحرف المناسب.
لقد كان الإنسان، عموما، من بين جميع المخلوقات هو الأقرب لصناعة الحروف. هذا إذا استثنينا قدرة كل المخلوفات على إنتاج أصوات ذات معنى مخصص. فقد امتلك الإنسان زمام القدرات الخاصة للمنطق و الفهم ثم العقل و التفسير. بمعنى أن الحروف عند أهل الكلام هي غيرها عند أهل المنطق. إنها ذات قيمة روحية و وجدانية صرفة، تدل على الطاقة التي تأهل بها الإنسان، و هذا قد لا يتفق مع القيمة المعرفية و العملية.
إن التفكير ضمن دائرة الروح و ما تتصف به من إمكانيات ميتافيزيائية تضع الفعل في خدمتها و ليس العكس قد لا تتوافق مع ما يتوصل له علماء المنطق من دور واقعي نربط به اللغة و بالأخص وظيفتها.


وإنه بتحرير الحرف و الكلمة، و أخص هنا الأسماء سواء هي لبدايات أو لذات نشاط مركب و معقد، يمكن أن نعزو لها وظيفتها الجمالية.


و دائما بوسعنا تقسيم هذه الجماليات غير المتفق عليها إلى سياقين:
 -
منطوق. و هو التنغيم و الشدو و الذي يؤثر بحاسة السمع.
 -
ثم مكتوب و هو كل ما يؤثر بحاسة البصر. حتى أنه أحيانا يخلق لدى المشاهد بعض المؤثرات الفانتازية أو لنقل المؤثرات الخاصة المفتوحة على عدة احتمالات.


و من هذا الباب يدخل جميع نشاط المتصوفة. إنه يستند أساسا على المعنى الرمزي لفضل قيمة الحرف كدال. و كأنه نشاط اقتصاد جباية. و أرى من واجبي التنويه إلى تحقيب هذه الظاهرة. و النظر لها في نطاق حقيقتها التاريخية. و لا سيما أن الحروف مرت في معراج درامي خاص، معراج متطور من غرافيم متشابه إلى حرف له معنى مادي شديد التخصيص و منفصل عن ظاهرته الصوتية كنقطة. أو كصفر كما يقول الألسنيون. ثم أخيرا كحرف منقوط و مشكول. و هذا حصل في وقت متأخر من التطور الألسني للغة الضاد.


و إن دراما الحروف تفترض وجود دورة حياة خاصة بها. أدت فيما بعد لوفاة بل لموت و اندثار الجذر الأصلي سواء بدلالته الإثنوغرافية أو حتى بفانتازيا معراجه من المتأخر للمتقدم، من المجتمع الرعوي و الزراعي حتى المجتمع الصناعي التابع لأساليب الإنتاج و لنشاط رأس المال.


و لئن لم يكن هذا في ذهن أديب كمال الدين حينما نعى حروفه و بكاها في أجمل الرثائيات المعاصرة، حيث كان رثاؤه مرفوعا لمن أصبح بين يدي الحضرة الإلهية، و هذا في قصيدته (جاء نوح و مضى) حيث يقول :

 

ستموت الآن


أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن.


هذا لا ينفي أن اللاشعور الجمعي ترك في أسفل خبراته قناعة خاصة أن الحرف كائن حي، يولد معنا، و يموت فينا، و له سيرورة. و ربما أحيانا نستطيع أن نتخيل له بيوغرافيا أو CV، و هذه قناعة مؤكدة عند شاد دافيدسون الذي رأى أن الحرف عبارة عن تاريخ حي. أو أنه أقلها دليل سياحي يرشدنا لنقاط الإضاءة في تاريخ الحضارات الميتة. كما في قصيدته عن حرف الألف الشمولي و الدكتاتوري الذي يحجب بغيومه الياء المعقوفة e و الواو المقعرة o و الراء الغامضة r ( قصيدتان للشاعر شاد دافيدسون، بترجمة لصالح الرزوق. منشورة في موقع مجلة ألف . 22 نيسان 2008


و هذا دليل آخر أن للحروف ما يقول عنه فوكو القدرة على التمثيل المضاعف: التعبير عن البنية. ثم كشف الغطاء عن خصوصيات الخطاب أو سياقاته المحددة.


وهكذا يمكن لنا أن نخرج من مضمار المعرفة المشروطة لمضمار المعرفة الدلالية.
وأستطيع ضمن إطار هذا المنطق وحده أن أنظر لمعنى حرف النون.
أولا إنه ينتمي إلى لغة ذات ارتباطات نوعية يتوارثها العقل المعرفي للشعب وروح أو وجدان الحضارة بنفس الشروط التي يتوارث بها الجينات المحددة للشكل و اللون و المؤهلات الأخرى. و هذا يعني ضمنا إنه حرف غير عالمي. حرف له حدوده. بعبارة أخرى إنه مخلوق، و بالضرورة لا يتصل بالحالة الوجودية للماهية التي هي من خصائص الله.


و لكن هذا لا ينسف الأساس الجمالي لفكرة التصوف و كونية المعارف.
فالتصوف يقدم أطروحة إعجازية و أخاذة للاتصال مع الخالق الواحد، و مع جوهر فكرة العلاقة بين الخالق و الموجودات. و يفترض القدرة على التأثير بحاسة السمع و البصر من غير شروط اجتماع - سياسية مسبقة كما رأينا في نظرية غارودي عن علم الجمال الماركسي.


و لذلك يمكن أن تتقاطع هنا أساليب الحرف القوطي التي أسرفت منذ البداية في التفنن و الزخرفة و إضافة طرق الحفر بما يشبه برعما أوشك على التفتح، أو نفسا منطوية و معقدة و أشرفت على الإنبساط، مع الحرف التصوفي الذي يعزو لكل خط و كل صوت قيمة أسرارية، قيمة انتباه و تيقظ، مثقلة بخشية الله و بعجائب اللامتناهي و بقدرة المجتمع على نشر الذعر في النفوس.
لا شك أن لحرف النون عدة فضائل و هي فضائل مدهشة. و لكن لا نستطيع أن نقول إن تفسير المتصوفة له هو مطلق تفسير معنى النون على امتداد تاريخه. فأصل هذا الحرف باللغة العربية غير منقوط. و هذا يضرب الافتراض التصوفي لابن عربي و سواه في مفصل حساس. و لكنه في نفس الوقت يدعم الأطروحة من زاوية أنها تعكس نوعا من الدراما الاجتماعية. فإضافة النقطة يضع الحرف في موقع العاجز و الذي يحتاج لمساعدة، لإشارة، لنوع من الفيتامينات أو الدعم لرفع معنوياته. و هكذا يسهل على الإنسان التعرف عليه.


و هذا ليس حال الميم مثلا. لقد اختار أديب كمال الدين الميم ليكون حرف موته ( قصيدة موت المعنى ) ، و ليكون رمزا لموت الماضي السحيق ( قصيدة ماضي المعنى ) ، و ليكون أخيرا زهرة بمجرد أن تتفتح تطير منها الأعاجيب ( قصيدة طلسم) ) . فالميم حرف دائري مغلق. حرف لا يريد أن يتطور.
إن المقارنة بين النون و الميم ليس مسألة اعتباطية. فكلاهما حرف مضاعف و متكرر و نلفظه بتكرار صوته مع إضافة حرف علة، مقابل حروف أخرى مختلطة كالدال التي تلفظ بإضافة حرف اللام، أو الجيم التي تلفظ بإضافة حرف الميم ذاته، و تكتب بإضافة نقطة.


و إن هذه الصفات الخاصة لحرف النون تؤهله لأن يكون موضوعا شعريا. أو مخلوقا ألسنيا لديه أسراره و مناقبه. و لذلك يمكن أن يحتمل ألعابنا اللغوية و أخيلتنا بنقطته و بدائرته المفتوحة، بصورته الأصلية التي كانت عمياء من غير تنقيط.
و قد فعل ذلك على أكمل صورة و بأتم وجه من خلال تركيبه لشخصيات مأزومة ( كما قالت حياة الخياري في كتابها أضف نونا )، حيث أنه أكد على وظيفة التعالي على الواقع المتدهور و ليس بدق طبول الحرب ضده . ص 77 ). و هي شخصيات كانت في جوهرها أقرب للبطل الوجودي من ملامح النبي، المختار حامل الرسالة ( ص 77 أيضا.

 

       رحلة البحث عن الحقيقة

 

إذا ضرب لنا التصوف درسا في التذمر و الاحتجاج. و لاحظنا له رؤية و طريقة تفكير. بعكس التصعلك الذي هو بطولة فردية، و استعارة مباشرة من تصورات الأفراد لما هو حق. كان التصعلك سلوكا خارجيا و يشبه موقف أبطال الخوارج لو تناسينا مبدأ الإيمان و ركزنا على مبدأ العمل.

إن التصوف، في كل حال، سلوك باطني على مستوى الأفراد و المجتمع. بمعنى أن نشاطه الاجتماعي جزء من ماكينة إنتاج طبقات المجتمع. و هكذا لعبت الأخويات نفس الدور الذي تلعبه النوادي و الصالونات الثقافية اليوم. و بقليل من التساهل كانت أقرب لمقرات حزب غير مرخص. ومن هنا تقاطعت مع الوجودية الرسمية و لا سيما بنسخة برديائيف و هيدجر.

وإن تساوي الوجودية و التصوف، من ناحية اجتماع - سياسية، يمكن اختصارها بمبدأ البحث عن الحرية أو البحث عن المطلق. و هذا يعزو لهما ثقلا واحدا في كفة الميزان. كلاهما احتجاج على الظروف المجحفة التي تشوه إرادة الله من خلال الإساءة لمعناها، أو كلاهما اعتداء على الإرادة الإنسانية من خلال التركيز على ماديات الروح و فينومينولوجيا العقل ( بلغة هيجل).

إن التصوف، مثل الوجودية، اعتداء على جسد المؤسسة التي فشلت في إدارة أزمة الإنسان مع تاريخه. و المؤسسة في كلتا الحالتين هي الحكومة و أدواتها.. لغة القانون أو لغة الخيال، سرد الذات أو سرد الأفراد.

و لكن امتاز التصوف بشن حرب ضد جسد الحقيقة، و بدمج لأوراق التاريخ النفسي للعقل، و قد وضع نصب عينه الروح المعذبة و المخلصة لآلام البشرية جنبا إلى جنب مع انتهاكات جسد الحكومة التي استعارت سلطتها من ميثاق غير اجتماعي، بالأحرى من ميثاق نفسي متحول.

و في مجموعة ( نون ) لأديب كمال الدين نلاحظ الارتباط بوجدان منكسر و آسف، وجدان يحترق بشيء من اللوعة و الندم. لقد قدمت لنا ( نون ) قصائد ذات روح نيتشوية فيها احتجاج على انحرافات مظاهر العدل الإلهي، و شيء غير قليل من التذمر و التشكيك، حيث كان طلب الحقيقة لا يستند على الإخلاص في المقاصد، و يتجاوز ذلك للترصد لمعنى الإخلاص و تمحيصه أو وضعه على كفة الميزان ( كما هو حال النبي زرادشت ).

و هذا برأيي هو سبب الاختلاف الواضح بين إيقاع مجموعة ( نون ) التي تأخذ دلالة الله بما ظهر منها، بحرفيتها الساكنة و غير التاريخية، و إيقاع مجموعة (أخبار المعنى ) بما بطن فيها، و التي تتناول الشرط الوجودي لجوهر المعنى المستتر، الذي يؤكد على مسألة تدويل التجربة الإنسانية. و هذا يدل ضمنا على تشابه أساليب التفكير و أدوات التعبير أيضا.

 و لو أمكن لنا أن نقارن بين الشعر و النثر، بين نشاط النفس الذي تغلب عليه قوانين الاستعارات و حراك الذهن الكنائي، يمكن ربط قصائد مجموعة نون برواية ( فخ الأسماء) لخيري الذهبي حيث أن تقشير الطبقات المتعددة لمعاني الكلمة الواحدة يشبه دراما البحث عن إنسان غائب و بسيط و مكبوت.

و هذا يماثل قليلا معنى التصوف الاجتماعي، حيث أن الغاية منه تكون في الخروج من رتبة الرعية للدخول في أخوية الدين ( فخ الأسماء – ص 64 ). وفرض ذلك على بطل الرواية نفس الأعباء التي فرضها أديب كمال الدين على أبطال قصائده في ( نون ). لقد كانت بنية الدراما في العملين متشابهة، و تؤكد على أهمية استغلال الطاقة الروحية للتحكم بحركات الجسد سواء في النشاط الفردي الخاص أو النشاط الجمعي النفسي. سواء بالغناء و الطرب أو الدعاء و الرقص. و في كل الحالات تكون الغاية هي الاقتراب من الحقيقة التي ترادف معنى أو وجه الله ( فخ الأسماء – ص 64 ).

وعن ذلك يقول أديب كمال الدين في قصيدة: جنة الفراغ :

أنا الآن في حرّيتي

أرقص مع الحاء

وأغنّي مع الياء

وأرسم أرشق اللوحات مع الراء

ألفاً قوياً حيّاً متماسكاً

فلا تحاولي الاقتراب مني

ولو بتحيةٍ عابرة.

 

ويقول في قصيدة (خطاب الألف) :

 

وأحيانا تخرجُ القصيدةُ من هيبتها

فتغنّي لي، وتضحكُ، بل تتعرّى

وترقص!

و تؤكد على هذه الحقيقة استعارات تتألف من كتلة مادية و فحوى روحية كقول خيري الذهبي: عشبة الحياة ، زهور البراكين، ثمار الريح ( فخ الأسماء ص – 66 ). و قول أديب كمال الدين: دمعتي حجر ( قصيدة قاف)، ملح الطمأنينة، ملعقة الحب ، زجاج الروح ( خطاب الألف).

و إنه في ظل هذا التوجه المزدوج الذي تتألف فيه العبارة من قشرة و محتويات، و تعاني من الصدع التقليدي بين العبارة الضيقة و المعنى الواسع ( كما قال النفّري)، يكون من المبرر للشاعر، و كأنه نيتشة صغير آخر، أن يبشر بموت الرب كما في قوله: أنا الإله الميت (خطاب الألف)، هذا إذا وضعنا بعين الاعتبار مقولة أبي يزيد البسطامي في الشطحات أن (  لا إله إلا أنا )، و كأن الإنسان هو صورة الله على الأرض.

لقد حمل التصوف الاجتماعي في قصيدة ( نون ) حزمة من الإصلاحات الميتافيزيائية التي ترى السعادة و الخلاص في الموت، لأن: ( الجسد هو ما سيفارقك يوما. و الآخر السجين فيه سيصحبك إلى الحق)،  ( فخ الأسماء - ص 74 – 75 ).

وهكذا كان الموت، بنظر أديب كمال الدين، حقيقة و خلاصا، أو سعادة مؤجلة. واستحق أن يقول عنه: موتي السعيد ( قاف)، وأن يقول: الموت هو الفرح الوحيد ( جنة الفراغ). و أن يقول أيضا: الموت لذيذ ( خطاب الألف).

و كأنه يحاول تسويق نظرية كامو في الموت السعيد التي ترى أن الحياة موحلة (الموت السعيد – ص 76 )، لكن الموت نظيف وله قوة رهيبة و حرية واسعة و خلاص من الألم الناجم عن الوضع المحدود ( الإنسان المتمرد – ص 12).

و إن اعتماد الشاعر على المعنى المستتر غطى على كل القيم الصوتية التي هي ذات مصدرين:

-        من تقليد الإنسان المعاصر لروح البداوة باعتبار أنها أقرب جزء من الحياة للطبيعة و لعالم الأفكار المطلقة و غير المحدودة.

-        تجويد اللفظ لخلق حالة توحد بين الحرف و معناه كما في الديانات.

لذلك لم يهتم الشاعر لا بالتنوين و لا بأحكام الغنّة التي تعزو لصوت النون أهمية مزدوجة. و لا سيما أن الحرف المقصود يدل على الصفة، و حروف العلة ( التي هي للمد و التنغيم ) تدل على الذات ( المعجم الصوفي ) . و هكذا ركز على الإيحاءات الخاصة لهذا الحرف. لقد تعامل معه كأنه يتعامل مع صورة لمشهد طبيعي، مع مخيلة خلاقة، ثم مع واقع غير حاضر إلا من خلال الذكريات. و مثل هذه النوستالجيا كانت أقرب لما هو مكتوب. لرموز الصوت و ليس للصوت ذاته. و لذلك يمكن أن ينطبق عليها ما ينطبق على الكاليغرافي في نفس الوقت.

و الأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى.

يقول في قصيدة ( قاف ):

صرتُ أرى نونَكِ من غير نقطة.

 

ويضيف في قصيدة ( خطاب الألف ):

وكشف ألفي عن نقطةِ نونكِ العارية

 

و يقول أيضا في نفس القصيدة:

على سجّادة موتي رأيتُ النونَ غيمةً عظيمة.

 

لقد كانت توجد تصورات كاليغرافية ورمزية كثيرة، عند أديب كمال الدين، للنون: إنها هلال، إنها قارب بلا شراع، وهي أيضا دائرة مكسورة. و لا يجاريها في هذه الفانتازيا غير صورة حمى أبي الطيب المتنبي التي تخيلها بشكل زائر يبيت في عظامه في موهن من الليل. و هذا تثبيت لرغبته في تجسيد النون و تطبيع لعلاقاتها مع الواقع الاجتماعي و لو أنه واقع خلاف و خصومات.

 

**

بالمقابل تبدو  قصائد (أخبار المعنى) أقرب لرواية ( الطريق ) للكاتب المعروف نجيب محفوظ، حيث أن البحث عن الأب المجهول يتحول لرحلة رمزية الغاية منها اكتشاف الحقيقة أو الحق الذي هو جسد لتصوراتنا عن الله، و ربما هو اكتشاف لتأويل معناه في قلب المؤمن. أليس هناك تطابق بين الاهتمام بالمعاني التي لا دليل على وجودها إلا من خلال رموز وضعية  و البحث عن أب غائب لا نراه و نستدل عليه بآثاره؟

إنه بحسب القديس أوغسطين الإنسان هاوية و الوجود معين لا ينضب، و لسبر أغواره لا بد من الانغماس في رحلة بحث ميتافيزيائي ( ص 347 ). و لكن برأي جون ماكوري الوجود البشري لا يتجرد من بيئته، و من ثم إثارة السؤال عن الإنسان هي كذلك إثارة للسؤال عن العالم و الأزمنة و التاريخ و علاقة الإنسان بهذه الموضوعات ( 348 ).

لقد ركز نجيب محفوظ في روايته على لسان بطله الضائع صابر، و الذي يكتوي بنار الشك و لهيب اليأس، على عدة مفردات عامة تبذل ما بوسعها لاكتشاف أين ينتهي الواقع و أين تبدأ الحقيقة. و على رأسها مفردات شائعة و مفهومة، و لكن معناها منكسر و غامض، كالأمل و الحلم و الغريب ( ص 186). و عزز هذه اللاأدرية بتساؤلات تعكس حيرته و شكوكه كقوله: كم في البحر من أمواج. و قوله أيضا: كم في السماء من غيوم ( ص 192 ).

 

و هذا ينطبق أيضا على العبارات العامة و الخاصة في ( أخبار المعنى )، و التي تدل على كل شيء و لا تدل على أي شيء في نفس الوقت. مثل قوله: يدخل في حلم ( وصول المعنى). أو قوله: إنارة حلم لا يحوي الساعة شيئا ( نص المعنى). و قوله: شكل الحلم السري ( أنثى المعنى).

إن حركة بطل دراما ( أخبار المعنى ) كانت عنيدة مثل حركة دراما صابر في الطريق. و كان كلاهما يتجه نحو الموت في معارك لم تحدث ( موت المعنى).

و هذه هي المظلة التي اختار أن يقف كلاهما تحتها. مظلة الشك باليقين أو الشك بالكوجيتو. و هو المحرك الدافع لرحلة البحث عن الماضي الضائع و الأصل المفقود عند نجيب محفوظ، و عن الجدوى من الوجود في حالة أديب كمال الدين.

و لذلك قال نجيب محفوظ على لسان صابر بنفس الصيغة الاستنكارية التي تنطوي على تساؤلات مريرة: كيف أضيع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده. ثم قوله: هل نتأكد من وجود شيء إلا بالبحث عنه ( ص 188).

و يجسم أديب كمال الدين هذه المشكلة بقوله المبالغ به: إن الإله ذاته يبحث عن معنى لنفسه ( نون المعنى). ثم بنبرة أخف يضيف : المسألة هي معنى يبحث عن معنى لطلاسمه ( ارتباك المعنى).

و لذلك كانت الرواية و القصائد على قدم المساواة فيما يتعلق بالحركية و الإيقاع و الابتعاد عن الإسهاب أو الإطناب بالوصف و الابتعاد ما أمكن عن المشاهد الطبيعية. لم تكن في الرواية، بعكس عادة نجيب محفوظ ،تفاصيل عن المكان و لا سيما مصر القديمة. و لكنها اهتمت بتيار الشعور الذي يضع الذهن و التجربة النفسية على المحك. و كذلك حال ( أخبار المعنى ) التي قدمت وجبة خفيفة من مشاهد الطبيعة الآسرة و الخلابة سواء في هدوئها ( أشجار الغابة التي تموت واقفة) أو في ثورتها ( طوفان البحار و الينابيع) ، مقابل تراكيب متخصصة بما لا يسمى، أو لما يصعب الإحاطة به، كالرحلة للمجهول و المعنى المستتر و خلجات الذهن، و قس على ذلك...

و هذا يفترض برأيي أن المشكلة الميتافيزيائية عند الشاعر و الروائي لها مضمون غير عياني بوصفها مشكلة غير اجتماعية في الأساس ( ضد ما ذهب إليه جورج طرابيشي في كتابه عن الله و رحلة نجيب محفوظ الروائية – ص 64). إنها مشكلة لا إنتماء للعالم و عدم التزام به و عدم مشاركة في صياغته. و لذلك هذا يعني أن الله و العالم دائما على طرفي نقيض ( بالتوافق مع ما قال جورج طرابيشي في هذه المرة – ص 64 ).

 

      من الشك إلى الإيمان

 

 و لكن باعتبار أن ( نون ) هي قبل ( أخبار المعنى ) فهذا يدل أن رحلة أديب كمال الدين بدأت من اكتشاف المعنى الملموس و انتقلت لتأويل العاطفة. و كانت ( مواقف الألف ) هي نهاية هذه الرحلة الشائكة، و شجرة ميلاد الحروف المثمرة..

فهي قصائد وجدانية ذات مدلول إجتماعي، و رسالة تعبر عن أسرار اللاشعور حيال متطلبات الصراع مع انحرافات الواقع، فقد كانت لها نكهة التبشير بمجتمع المدينة و ليس مجتمع القرية. و هذا يفترض أنها قصائد تقترب من هموم الحياة و كل ماديات النفس.

لقد كان القانون في المواقف أشبه بالقانون الأصلي القديم الذي تحكّم بالمخاطبات.. مناجاة و تأنيب، و تفتيش في الضمير العام عما لحق به من شوائب و ذنوب. و لذلك يحق لنا أن نضعه في مصاف ( نون ) و ( أخبار المعنى).. و من نقطة تقاطع واحدة، هي اهتمامه بعذاب الطريق قبل الوصول لنور اليقين. أضف لذلك أن روح و معنى المواقف لا تعرف شيئا لا عن الشك و لا عن التردد. فهي قصائد حازمة في معناها و في مراميها. و هي أبعد من سواها عن المؤثرات الرومنسية. إنها تعكس موقف الذات تجاه عالم فقد الفحوى المنوط به.. و هو عالم المدينة المتحجر الذي يأكل الطبيعة و لا ينتجها، و بالتالي الذي يفكك شمولية البنية، و يباعد ما بين الذات و الموضوع، و يلقي على المعنى مسحة من الغموض الدلالي. و هذا دليل على الحيرة العاطفية و عدم القدرة على الاختيار، و ربما الارتهان لفشل حضاري في التفسير. إن ( مواقف الألف ) تتعدى على الحرية التي هي شرط لتوفير عاطفة أشخاص لهم ذات. و هنا لا يكون الحرف ملك نفسه، بل قيد شروط الأسماء التي يحملها بالنيابة عن العقل أو الشعور.

و مهما كانت هذه التجربة خلافية، و مهما شئنا أن نقول عن مضمونها الفني، أو بالأحرى عن مشروعية أدواتها الفنية، هل هي مباشرة و مكشوفة؟ هل هي بيت من عظام من غير كساء؟.. فهي بمثابة نقطة في آخر السطر. لقد شاء أن يربط حاجاته المادية بدور الوجدان في تحديد الاتجاه. و ربما كانت هناك ضرورة لتبسيط الأدوات، لتدل على الحاجة لما تحت الواقع، و ليس لما فوقه. الحاجة للمعجزة و ليس للفانتازيا. و أخيرا لتغليب برهان المؤمن على منطق ذهن رياضي غير مستقر و عرضة للتبدل. و أعتقد أن هذا لا يشبه محاولاتنا الفاشلة و المضحكة لتحديد أين وقع طوفان نوح المذكور في الكتب السماوية. أو لتفسير بعض ظواهر هذه الكتب بوسائل العلم الحديث. إن المؤمن هو من روح الله، فيض الكل على الجزء. و لا يمكن للأدوات الفنية مهما كانت ثمينة أن تحل في مكان الماهيات. و الماهية تامة و بسيطة و هي شكل مغلق على التجربة. إنها المعنى التام الذي قال عنه ابن عربي هو دائرة ليس لها باب.

 

مصادر :

 

أديب كمال الدين ، جيم - دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1989 .

أديب كمال الدين ،نون،  بغداد، مطبعة الجاحظ، 1993 .

أديب كمال الدين ، أخبار المعنى. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. 1996 .

أديب كمال الدين، مواقف الألف. الدار العربية للعلوم ناشرون. بيروت 2012 .

ألبير كامو ، الإنسان المتمرد،  ترجمة نهاد رضا. 1963 .

ألبير كامو، الموت السعيد. ترجمة عايدة مطرجي إدريس. دار الآداب. 1971.

حياة الخياري، أضف نونا- قراءة في نون أديب كمال الدين. الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2012 .

جورج طرابيشي ، الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية. دار الطليعة . بيروت. 1980 .

جون ماكوري John Macquarrie ، الوجودية. ترجمة إمام عبدالفتاح إمام. سلسلة عالم المعرفة. الكويت.1982 .

خيري الذهبي ، فخ الأسماء، دار الآداب، 2003 .

فريدريك نيتشة، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، الإسكندرية، مطبعة جريدة البصير، 1938 .

سعاد الحكيم ، المعجم الصوفي. منشورات دندرة. بيروت.

شاد دافيدسونChad Davidson، قصيدتان لشاد دافيدسون، ترجمة صالح الرزوق، موقع مجلة ألف. 22 نيسان، 2008 .

نجيب محفوظ ، الطريق. الأعمال الكاملة. مجلد 3. مكتبة لبنان. 1991 .

 

أيار 2012

 

 

الصفحة الرئيسية    

Home