قراءة في كتاب (الحُروفيّ: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة)
فيصل عبد الحسن*
كتاب (الحُروفيّ) من أعداد الناقد د. مقداد رحيم جاء ليوضح تجربة شعرية
اتسمت بالحداثة والتنوع. وقد أغنى المتابع حقا، الذي تابع تجربة شاعرها "أديب كمال
الدين" في مسيرته الشعرية الطويلة، التي أمتدت لأكثر من ثلاثة عقود، وجعلت القارىء
يطلع على الجهد النقدي والبحثي المتنوع، الذي رصد النقد فيها مسيرته الشعرية، منذ
بدايتها في السبعينات من القرن الماضي في العراق حين نشر شعره في هذه المجلة أو تلك
الصحيفة، وحتى استقراره الأخير، قبل سنوات في أستراليا، وقد جرّب في وطنه، وبعد
هجرته كل ألوان الحياة وتجاربها، وانصهرت كلُّ تلك التجارب في بوتقة شعره، وحوّل
فيها آلامه وأحزانه وأفراحه الصغيره، ذكرياته، واشتعالات روحه، وتصوّفه، وعشقه
للحياة، وكرهه للقبح فيها إلى قصائد جميلة راقصة، ذكرتنا بقصائد شعراء مبدعين كبار،
لكنها لم تنسج على منوالهم، بل هي استوحت خطواتهم في فهمهم للشعر ودوره في جعل
الحياة، أكثر يسراً وجمالاً، وأشارت إلى أن بفقدان الشعر ستصير الحياة أكثر قبحاً
وسوءاً .
فالحياة لدى هذا الشاعر صراع طويل، ومرير
مع النفس، ومع المحيط. فالأنثى والمخلوقات والأساطير وأتباع الخالق تعالى في حثّه
على سلوك طريق الحق وتجنب الباطل، والغدر والعقوق، والظلم، والتجمل بالمحبة
والإيثار، والبحث عن المجد في قلب الهزيمة، والفرح في قلب الفجيعة، هي ذخيرة بندقية
الشاعر، ووتره الذي يعزف عليه ألحانه الهادرة، والباقية، ما بقي يقرأ الشعر، وما
بقي من يحتكم إليه في محبة الدنيا، ومباهجها وذم القبح، والخيانة، والفقر، والضلال،
والفراغ الروحي، ومحن الحياة.
لقد
استمدّ الشاعر من قراءته للقرآن الكريم وافتتانه به، وبكل ماجاء فيه من جمال لغوي
آخاذ، وثقافة ومعرفة ورؤية ثاقبة، ونقل افتتانه بالقرآن الكريم، لا بصيغه اللغوية
واستعاراته، وبلاغته، وحدها بل بقصصه، ومأثوراته، وحوارات من قصّ قصصهم الخالدة،
وأستطاع أن ينقله في سلّة شعره، ليقدمه للقراء بلون جديد وفهم عميق. فصار القرآن
الكريم مرجعاً للكثير من النقاد الذين درسوا شعر هذا الشاعر، وحاولوا فهم ما تعني
رموزه الشعرية وحروفه المطلسمة في كل قصيدة من قصائده، فقد وجدوا في سور القرآن
المباركات ما يهديهم لمعرفة الكوى النورانية التي نهلت منها قصائده.
لقد أستطاع
معدّ الكتاب د. مقداد رحيم أن يجمع أغلب ما كتب عن هذا الشاعر من دراسات، ونقود عبر
عقدين من السنوات، وأن يقدمها في كتاب شامل أغنى متابعي إبداع هذا الشاعر، وراصدي
تحولاته الشعرية. وقد كانت المهمة ليست بالسهولة، التي يظنها من قصر نظره، فهي
بالتأكيد احتاجت إلى جهد كبير، ومتابعة صعبة في ظروف بلاد الشاعر "العراق" غير
المستقرة، والمعروفة لدى القارىء، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهي مملوءة بالحروب
وعدم الاستقرار، والحكم الشمولي، وانعدام الحرية المطلقة التي يبحث عنها الباحث في
العادة ليزهر بحثه ودراسته، وما تبع ذلك أيضا من عدم استقرار للشاعر، وتقلّبه من
هذا البلد إلى ذاك، حتى استقراره الأخير في أستراليا. لقد جاء في المقدمة التي
كتبها المعد د. مقداد رحيم ما يشير إلى هذا، فهو يقول عن كتابه: "هذه
باقة من الجهود النقدية المهمة التي تضافرتْ لتشكل خلاصة نقدية مثمرة طيبة الأُكُل،
ولتكون أنموذجاً نقدياً يُمكن أنْ يُحتذى، فيُصار إلى افتراع اتجاهات نقدية جديدة
تأخذ على عاتقها بلورة الرؤى حول التجارب الإبداعية المائزة، ليس في مجال الشعر
وحده، بل يمكن أن تُعمَّمَ لتشمل الفنون الإبداعية كلها، كتابةً ورسماً ونَحتاً
وسَماعاً.
أما هذه التجربة فهي
تجربة الشاعر أديب كمال الدين، الذي اختطَّ لنفسه طريقاً عسيرةً تتماشى عُسرتها وما
في هذه الحياة من تعقيدات وإشكاليات تتجلى عبرها أصناف لا عدَّ لها من المحن
والكوارث التي ليس للبشر قِبَلٌ بتحملها، وقد رأى الشاعر أنَّ النظر إليها بالطرق
المعهودة لا نفع فيه وهو يَنشُدُ الطرافة وابتداع الوسائل الكفيلة بالتغيير الذي هو
سمة الحياة في كل زمان وفي كل مكان، فلفتَ إلى تجربته أنظار النقّاد فضلاً عن
القرّاء ومحبي الشعر."
ويحدثنا عن تجربة الشاعر الحروفية، وتسميته بالشاعر الحروفي في بلاده،
بقوله: "تتجلّى
هذه التجربة فريدةً ذات خصوصية تدلُّ على الشاعر وحده، وتختص به دون سواه، وقد بدا
وكأنه يعمل من أجلها بإخلاص وحبّ شديدين، منذ زمنٍ ليس باليسير، فأخذ يُغذِّيها بكل
ما استطاع مِن قوةٍ استجمعها خلال حياته كلها من مفردات التعلم والثقافة والتجارب،
ولم يبخل عليها بالسهر والتجريب، حتّى شَكَّلتْ ظاهرةً في الشعر العربي الحديث، كما
شكَّلتْ الظاهرةَ الكبرى في شعرهِ هو، حتّى ليكادُ المتتبعُ يُشفق عليه لظنه أن
لهذه الطريق نهاية، وأن لليل أحاديث سيقطعها بزوغ الصباح، حتّى يكتشف أنْ لا صباحَ
وراء ليله، ولا انقطاع لأسماره!
"إنَّ خصوصية تجربة الشاعر
وَلَّدتْ ما اصطلح عليه النقاد والمهتمون بأمور الشعر العربي الحديث، وشعره خاصةً،
بـ(التجربة الحروفيّة)، حتّى أصبح لصفة (الحُروفيّ) وقعها الخاص الذي يدلُّ على
الشاعر أديب كمال الدين وحده، وحتّى صار مناسباً أن تكون هذه الصفة عنواناً لهذا
الكتاب!"
ولمعرفة هذا اللون من التجريب الشعري الذي أتصفت به قصائد هذا الشاعر نجتزىء من
قصائده الحروفية قوله :
لكلِّ
من لا يفهمُ في الحرفِ أقول:
النون شيءٌ عظيم
والنون
شيءٌ صعبُ المنال
إنه
من بقايا حبيبتي الإمبراطورة
ومن
بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة
في
حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة
ومقلوب،
حقاً، عن لبّ الحقيقة.
وهكذا
اتضحَ لكم كلُّ شيء
فلا
تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمة
عن معنى النون.
أديب كمال الدين - نون – ص4) " ص 25 - كتاب الحُروفيّ"،
ويقول أيضا في قصيدة أخرى من ديوان آخر
للشاعر:
"عجبَ
الحُروفيّ من هذه الحاء
فلقد رآها مرّةً راقصةً أسطورية
ومرّةً رآها توابيت عارية
ومرّةً رآها ذهباً
وجمراً
ودموعاً
وسكاكين
فاحتار." (قصيدة حاء - مجموعة حاء -
ص56) .
لقد ضمّ كتاب (الحُروفيّ) دراسات لثلاثة وثلاثين ناقداً
تناولوا تجربة هذا الشاعر، وقد تناولت الدراسات معظم دواوين الشاعر، التي صدرت خلال
ثلاثة عقود. ومن الأسماء النقدية التي ساهمت في كتابة هذه الدراسات:
"الدكتور ناظم عودة، د. مصطفى الكيلاني، د. عبد العزيز المقالح، وديع
العبيدي، د. عبد الإله الصائغ، د. حاتم الصكر، د.
محمود جابر عباس،
د. حسن ناظم، د.عبد الواحد محمد، د. مقداد رحيم ، فيصل عبد الحسن، عيسى حسن
الياسري، عبد الرزاق الربيعي، خليل إبراهيم المشايخي،
زهير الجبوري، صباح الأنباري، صالح زامل حسين،
هادي الربيعي، د. إسماعيل نوري الربيعي، نجاة العدواني،
واثق الدايني،
ريسان الخزعلي،
معين جعفر محمد، د. بشرى موسى صالح،
عيسى الصباغ،
عدنان الصائغ، علي الفواز، يوسف الحيدري، ركن الدين يونس، حسين سرمك حسن، رياض عبد
الواحد، د. محمد صابر عبيد، معين جعفر محمد، زهير الجبوري."
وتضمن الكتاب ملحقا بآراء متفرقة لعدد من متابعي تجربة الشاعر نُشرتْ في مجلات
وجرائد ومواقع انترنت مختلفة لنقاد منهم:
"د. جلال الخياط، عبد الجبار البصري، أحمد الشيخ، محمد الجزائري، عادل كامل،
مهدي شاكر العبيدي، أمير الحلاج" وغيرهم.
الحروفيّة والنص الشعري الجديد، في
هذا الكتاب كانا في ميزان النقد، وقد رأى النقاد على مختلف مشاربهم، وفي مختلف
دراساتهم، التي ضمها هذا الكتاب، أنها نقلت الشعر الحديث من كونه تجربة قليلة
الأنتشار إلى ظاهرة شعرية مدهشة، جديرة بالدراسة والفهم والأتباع من قبل الأجيال
الشعرية الجديدة.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
·
(الحُروفيّ) صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت – لبنان / 367 صفحة من
القطع الكبير.
·
نُشرتْ في صحيفة (أخبار الخليج) البحرينية بتاريخ 5 نوفمبر 2011
فيصل عبد الحسن- كاتب
وصحافي
faissalhassan@hotmail.com