شعرية الحرف اجتراح هوية
قراءة في حروفية أديب كمال الدين
دكتور حيدر عبد عودة
الرفاعي
(من أطروحته لنيل الدكتوراه (النسق والمرجع في الشعر السبعيني
العراقي) الجامعة المستنصرية – كلية التربية 2020
"الموت هو الحرف الأعظم، إنّه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا
يدانيه حرف. وكشاعرٍ أتخذ الحرفَ وسيلةً فنيةً وروحية حتى صرتُ
بفضل ذلك أدعى بــ(الحروفيّ)، أقول: إن الحرفَ والحروفية، بل
الشعر والشعرية، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة
للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وعنجهيته
وعبثيته"[1].
عندما تحاول أن تجمّع تفكيك حروفية أديب كمال الدين،
ربما ستفلح في موضع أو موضعين، لكنك لا تفلح على طول الخط،
بمعنى إنك لا تستطيع أن تضع قاعدة مطردة تستطيع من خلالها فك
شفرة كل اشتغالاته على التفكيك الحرفي، ذلك أن تجربته الشعرية
مع الحرف عصية وتأبى التقعيد النقدي، فهي أقرب للمتاهة، أو كما
يصفها فاضل التميمي : أشبه بــ"متوالية عددية يصعب
الإمساك بنتائجها"[2]،
إذ أن توظيف الحرف لديه يشتغل على عدة مستويات، فتارة على
المستوى التشكيلي/ شكل الحرف، وتارة على مستوى تقطيع/ تجزئة
اللفظة حروفها، وتارة على المستوى الرمزي، والقناعي،
والأسطوري، والتراثي، والسحري، والطلسمي، والخارقي ، وهكذا.
وهذا ما يصعّب تحديد مسارات نهائية لحروفية أديب كمال الدين،
لأن التجريب الحروفي لديه مستمر، وكذلك أن المنطقة النصية
الحروفية لديه هي منطقة ممتدة، وليست محددة أو محصورة برقعتها
النصية، ولعل هذا ما يسم الشاعر الذي يعمل في ضوء مشروع شعري
خاص لا تنتسب تجربته إلا إليه، فيكون الجزئي ملتحماً بالكلي،
والبنية النصية دالاً شمولياً على النتاج الشعري برمته[3].
فمن اشتغاله على شكل الحرف نجده – مثلاً-
قد رمز لذاته بحرف الألف، إذ يقول:
أنا الآن في حريتي
ألفاٌ قويّاً حيّاً متماسكاً...[4]
بينما رمز لحبيبته
بحرف النون، إذ يقول :
أيتها النون عذبني جسدُكِ
قادتني عيناكِ من صحراء إلى صحراء[5]
فهو هنا يوظف الحرف
على المستوى الشكلي، ليمارس أحد تمثلات نسق الذكورة،
فشكل حرف الألف المنتصب قد رمز به لذاته /
ذكَراً منتصباً، حيث لا زال العرب، إلى اليوم، يُضفون على حرف
الألف ميزةً، لكونه منتصباً واقفاً، وربما كان لقضية (مركزية
القضيب) مدخلية أساسية في ذلك، وقد ورد ذلك في الشعر الحديث،
منه قول أحمد بخيت في مدح حاكم الأمارات العربية
المتحدة :
في آخر السطر أم في بدئِهِ تقفُ
في الحالتين مهيبٌ أيها الألفُ[6]
بينما رمز لحبيبته /
الأنثى بشكل حرف النون المقعّر، ولا يستبعد الباحث أن
تكون هذه المواضعة متستندة إلى مرجعية
قرآنية وتحديداً في قوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون} (القلم
:1)، تلك الآية التي يجعلها - الشاعر نفسه - مفتتحاً لمجموعة
أعماله الشعرية الكاملة بجزئيها -
فهناك من يفسر الــ(ن) في الآية الكريمة بالدواة /
محبرة، إذا ما ربطنا هذا التفسير بحادثة الزنا الشهيرة التي
جرت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، حين سأل الخليفة
الشهود : هل رأيت ما يشبه دخول القلم في المحبرة؟[7]
، تتضح الأمور أكثر، فشكل حرف النون المقعّر الذي يستدعي
الامتلاء بالنقطة، أو النون الدواة التي تستدعي الامتلاء
بالحبر، هي ذاتها نون النسوة، التي تستدعي امتلاءً لتفيض
بالحياة، ومن ثم تصبح النون– لدى الشاعر- شيئاً عظيماً؛ حيث
يقول:
لكل مَن لا يفهم في الحرفِ أقول :
النونُ شيءٌ عظيم
والنونُ شيءٌ صعبُ المنال
إنّه مِن بقايا حبيبتي الإمبراطورة ...
وهكذا اتضحَ لكم كلّ شيء
فلا تسألوا ، بعدها ، في بلاهةٍ عظيمة
عن معنى النون !
[8].
يذهب صالح زامل إلى: أن التأمل في الحرف جاء متأخراً في
المنظومة الفكرية الإسلامية، فضلاً عن كونه هامشياً فيها، ولعل
ذلك محمول على صلة التراث بالشفاهية ، فالحروف التي كانت اسماً
لأربع سور، ومفتتحاً لتسع وعشرين سورة، قد دُفع العلم بها إلى
الغيب. جاء الاهتمام بالحرف نتيجة الدراسات التي اهتمت
بجماليات الصوت وتحريك اللسان في القراءات القرآنية، إلا أن
هذا الاهتمام لم يرتقِ بالحرف إلى مستوى المتن، بل بقي معه
الحرف قامعاً في الهامش، فقد اختزل في الممارسة الصوتية، ومن
ثم في الممارسة الخطية التي أخرجته من الدلالة الصوتية إلى
الدلالة الحركية الصورية المتمثلة في الزخرفة وأشكال الخط
العربي، هذا إذا ما استثنينا التجربة الصوفية[9]،
والتي يُشكّل الحرف ثيمةً أساسية في تجربتها .
وعليه
يمكن الاطمئنان إلى القول بأن شعر أديب كمال الدين هو
شعر ما بعد حداثوي، ذلك أنه– أولاً- أعلا بكينونة الحرف
المهمش في المنظومة الفكرية والأدبية العربية، إلى مستوى
المتن، وهذه أبرز سمات ما بعد الحداثة، حيث أخرج كمال الدين
الحرف من معطاه الوظيفة كأصغر وحدة صوتية وشكلية مكونه
للكلمة/ المفردة، إلى معطى دلالي لا علاقة له بوظيفته الأولى،
معطى مستوعباً تجربة شعرية طويلة، بل معطى متماهياً مع تجربة
الشاعر مع الحياة، فجعل الحرف موضوعاً لغوياً، وذاتاً شعرية
فهي تتحاور وتتكاشف، حرف لكنه منفتح على الكون ومستوعب معناه،
منطلقاً (الشاعر) في ذلك من عقيدة/مرجعية قرآنية يرى من خلالها
أن للحرف، وفي الحرف أسراراً لم تكتشف بعد، مستشهداً على ذلك
بقسم الله تعالى ببعض الحروف، وافتتاح بعض السور القرآنية
بحروف مقطعة[10].
لقد استطاع كمال الدين من خلال الحرف أن يشكّل هوية
شخصية ينماز بها عن أقرانه، بل يمكن القول أنه قد اجتهد لصنع
أبجدية حرفية خاصة به، تستلزم الفعل التأويلي للوقوف على
ماهيتها، فاللغة لدية مختزلة في الحرف، مما يستدعي التأويل قبل
التحليل، وهذا "يعني أن المكاشفة الشعرية عند أديب كمال
الدين منفتحة على الكثير من العوالم الممكنة والافتراضية
الجمّـة فيما يرمي إليه ترميز الحرف"[11]،
مما يجعلنا إزاء أبجدية حروفية جديدة، وهذا ما أكده الشاعر في
قصيدة ( قاف ) حيث يقول:
لجمالكِ ينبغي أنْ أخترعَ أبجدية جديدة
[12].
وبالفعل اجتهد
أديب كمال الدين في محاولة منه لاختراع أبجدية خاصة به
ضمن مشروعه الشعري الخاص، ليُشكّل من خلالها هوية شعرية ينماز
بها عن أقرانه، بيد أنه يرى أن تلك الأبجدية هبة من الله تعالى
يُقودها إلى من تَقَدّمَ نحوه :
أوقفني في موقف الألف ،
وقال : الألفُ حبيبي
إن تقدّمتَ حرفاً ، وأنت حرفٌ
تقدّمتُ منك أبجديةً،
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور[13]
لقد استطاع من خلال تلك الأبجدية أن يشكّـل، من ثم، شعرية خاصة
به، يمكن أن يطلق عليها الشعرية الحروفية، وهذا ما نلتمسه في
تصريحه الذي يجعل من الحرف معادل الشعر، والحروفية معادل
الشعرية، إذ يصرح : " أقول : إن الحرف والحروفية، بل الشعر
والشعرية ..."[14]،
مما يمكن القول بأن الشاعر استطاع أن يخلق مشروعه الشعري، الذي
استوى مملكة تربع على عرشها بلا منافس. تنهض تلك الشعرية– بحسب
اعتقاد الشاعر- لا على منح الحرف قوة الكلمة، بل على منحه مجدَ
الكلمة، وعصا موسى، مما حدا به إلى أن يعلنها إمبراطورية
حقيقية، متوجةً بتاج الحروف وقلادة الكلمات وطيلسان القصائد
ووسام الهيام، إذ يصرح ذلك جهراً بلا مواربة :
سأمنحكِ أيتها النون المجنونة بالجمال والانكسار
مجدَ الكلمة ،
وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقية ،
وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّي عظيم
بتاج الحروف
وقلادةِ الكلمات
وطيلسان القصائد
ووسام الهيـام
وعصا السحر .
[15]
وثانياً
: جاء نصه الإبداعي بحرية تخييلية تتعارض مع السائد المقيَد
بقانون السبب والنتيجة؛ الذي يُساير الرؤية الأدبية القديمة
ذات المفاهيم المرشدة في صياغة التراكيب الأسلوبية، فالنص
الأدبي، في مكوناته، كان محكوماً بروابط سببية على وفق نظام
اجتماعي ينبغي احترامه، ذلك أن الأمر الذي بقيت عليه القصيدة
القديمة/ القصيدة الصورة شأواً بعيداً لم يعد يفي في حقل
المناحي المعرفية التي تأثرت هي أيضاً بالدورات الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية، وهو ما جعل هذه المفاهيم آخذه بالزوال،
أو في تطور مستمر، تبعاً لتعقيدات روح العصر، من منظور أن
المجتمع اليوم كيان متشابك العلاقات ومتداخل الأجزاء، ولعل هذا
ما جعل نسيج المجتمعات الحديثة مفكك الروابط والقيم
الانضباطية، بل حتى مركز الجماعة الذي كان يُسيّر الضمير
الجمعي لم يعد له ذلك التوجه، ولم يعد يؤدي دور الرقيب على
سلوك الناس في واقعنا المعاصر، وهذا ما آلَ إلى تنوع في
العضوية التي ينتمي إليها كل فرد تبعاً للتغيرات الطارئة على
المجتمع
[16].
ومما يؤكد متاهية حروفية أديب كمال الدين ما نلاحظه في
النص الآتي، والذي يتساءل فيه الشاعر عن عبثية المعنى، حيث
يقول :
أسأل ، ودمي يهذي :
كيف يكون المعنى عبثاً يا سيدةً قتلتْ نوناً تبحث عن
صاد المعنى؟
[17].
في هذا النص ينتقل التساؤل من النص إلى القارئ في محاولته
العبثية في الوصول إلى المعنى؛ ذلك أنه كيف لسيدةٍ أن تقتل
(نوناً) ؟ وما هذه النون؟ وكيف تبحث عن (صاد المعنى) ؟ وما هو
صاد المعنى أصلاً ؟ لتجعلنا شعرية هذا النص إزاء رؤى فكرية
متضمنة إضماراً تجريدياً، ينتهك من خلالها حدود أو عتبة
الدلالة اللغوية، مشكّلاً فضاءًحروفياً، أشبه ما يكون بالمتاهة
الدلالية،التي يصعب الوصول إلى نهايتها، تقوم هذه الشعرية على
إستراتيجية التأمل في الكون على وفق التأمل في الحرف، وربما
كان تشظي الشعر إلى حروف، هو نابع من إحساس الشاعر بتشظي الكون
. على أننا نجد كمال الدين، في النص الآتي، يعمل على
تجزئة الحرف إلى حروف، فيقول :
خذْ من كافي حائي ، خذْ منها قافي
خذْها ينبوعاً يشفي صحراء لغاتك
يشفي تأتأة الروح .....
خذْ كافي سينَ سلامٍ ، راءَ رعودٍ ، باءَ بهاءٍ ، نونَ
قيامٍ ،
ياءَ لغاتٍ ، تاءَ تخوتٍ ، واو وعودٍ ، دالَ دوالٍ ،
لامَ لُمى[18]
يصر الشاعر على أن يجعل الحرف بؤرةً، لا للنص فحسب بل بؤرة
العالم، بما يشع من فاعلية معنوية، ليغدو الحرف ينبوعاً يروي
ضمأ صحراء اللغة ويشفي تأتأة الروح، لينتقل الشاعر، من ثم، إلى
تقانة أخرى وهي تقانة الاشتغال الرمزي للحرف، ليجعل السين
معادلاً موضوعياً للسلام، والراء للرعود، والباء للبهاء،
وهكذا، فالحرف هنا ليس جزءاً من الكلمة فحسب، أي أن السين ليس
لأنها جزء من كلمة السلام، بدلالة قوله : نون قيامٍ، فالنون
ليس من ضمن حروف كلمة القيام، ليغدو الحرف – والحال هذه -
المعادل الموضوعي للموضوعات المشار إليها[19]،
بمعنى أن يكون الحرف مستوعباً للكون ومصدر إشعاع القيم
الإنسانية فيه .
وإذا ما كان كوهن يرى: أن هدف الشعرية، بعبارة
بسيطة، هو البحث عن الأساس الموضوعي الذي يستند إليه تصنيف نص
في هذه الخانة أو تلك، أي هل توجد سمات حاضرة في هذا النص
كمصنف في خانة الشعر، وغائبة في غيره ، ممن لم يصنف ضمن الخانة
نفسها حيث يذهب إلى : أن الشعر يحقق شاعريته من كونه انزياحاً
عن لغة النثر بوصفها اللغة المعيار[20]،
ومن ثم يمكن القول : بأن شعرية الحرف لدى الأديب كمال الدين،
لم تأتِ من كونها انزياحاً عن اللغة المعيارية / لغة النثر
حسب، بل لكونها انزياحاً عن لغة الشعر أيضاً، لتكون انزياحاً
عن الانزياح فجاءت نصوصه لتمثّل "قطيعة مزدوجة : مع الكتابة
الشعرية في عصره، ومع لغة هذه الكتابة"[21].
وإذا ما تأملنا النص الآتي :
أعطيكَ الكافَ فلا تسألني عن شيء أبداً،
ادخلْ في الكافِ وكلّمها ما شئت ..
فإن شئتَ الكاف إليكَ تكون دليلاً
لتقودكَ نحو الأخضر...[22]
نلاحظ أن الشاعر، في
هذا النص، قد خلق من الحرف ذاتاً شعرية تتحاور (كلمها ما شئت)
وترشد/ تقود نحو الحياة (لتقودك نحو الأخضر)، هذه الطاقة
الكامنة في الحرف -والتي لم تألفها اللغة من قبل - جاءت بفعل
الخلق والذي يؤسس لشعرية حديثة في النص الشعري تنسجم ورؤية
أدونيس للشعرية الحديثة، والتي يرى أنها تختلف عن الشعرية
العربية القديمة التي كانت قائمة على "قول المعروف في قالب
جاهز معروف، فهي تعكس واقعاً وأفكاراً، أما القصيدة الحديثة
(الطليعية) [هي قصيدة] خلق، تقدم للقارئ ما لم يعرفه من قبل،
في بنية شكلية غير معروفة، فهي إذاً لا تعكس، وتلك هي الخاصية
الجوهرية للشعر الحديث، إحلال لغة الخلق محل لغة التعبير"[23]،
لتقدم رؤية جديدة قائمة على حداثة السؤال واستكناه المجهول .
إذا ما كان دي سوسير يرى أن اللغة نظام محكوم بقوانين
خاصة، فهي لديه نسق أنثروبولوجي، يشتمل على مبادئ معينة تسهل
على مستعمليها إنتاج الدلالة وفهمها، وهذه الدلالة، على وفق
تصور ديسوسير، لا تظهر إلا من خلال إقامة علاقة منطقية
بين الألفاظ، إذ يشبه ذلك النظام بنظام رقعة الشطرنج، ليكون
المتكلم محكوماً بهذا النظام، ومن ثم فإن أي خرق للنظام يؤدي –
في ذات اللحظة - إلى تغيُّر في طبيعة النسق، ذلك أن العناصر
محكومة بقانون يرعي طبيعة العلاقات بين عناصره . من ذلك طرح
لوسيركل سؤال : أنا أتكلم أم اللغة تتكلم ؟ أي بمعنى : هل
يكون الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على الإرادة التي
يستعملها / اللغة، بحيث أنه يفعل بها ما يريد ويشكّلها على وفق
تصوراته، أم أن اللغة تلعب دوراً أساسياً في عملية التعبير،
بحيث تفرض شروطها هي، فتتحول متكلماً أو لاعباً أساسياً في
العملية[24]،
وإذا ما حاولنا تطبيق تلك المواضعة على حروفية أديب كمال
الدين نجد أن الأمر مختلف، فهو يكاد أن يكون خارج إطار هذه
المواضعة، بما يقيمه من علاقات بين المفردات اللغوية، والتي
تشكّل دلالات لم تألفها اللغة، بل هي خارج رقعة نظام اللغة،
بمعنى أنه سلب اللغة سطوتها، أو عنفها بتعبير لوسيركل،
بما تفرض على المتكلم أن يقول، أي تحييده بنظامها الدلالي، في
تلك اللحظة التي سلب اللغة سطوتها أو سلطتها أو عنفها، حرر
نفسه من كل تلك القيود، فغدا مغرداً خارج ذلك النسق الثقافي
الذي يرضخ فيه المتكلم لسلطة اللغة التي ترسم له حدود تعبيراته
دلالياً، فيخشى أو يحرص دائماً على ألّا يتجاوز تلك الحدود،
فإن ظنّ أوشكّ أو توهم بأنه تجاوزها، يتدارك بشيء من التبرير
أو التعليل، بقوله : (إن جاز التعبير) أو (إن صح التعبير) .
إنّ هذين الجملتين يدلان دلالة واضحة أن المجتمع قد منح
التعبير/ اللغة سطوة أو صفة معنوية ذات إرادة متحكمة فيه، فهي
تُجيز أحياناً ولا تُجيز أحياناً أخرى، وقد تخون في بعض
الأحيان، فيقولون للشخص الذي لا تؤدي مفرداته المعنى المطلوب :
(خانك التعبير). هذا النسق الثقافي لم يُحَمّل اللغة قصوراً في
عدم إيفاء مفرداتها لتسع كل دلالة أو أي معنى، بل ذهب إلى
تحميل المتكلم نفسه كل ذلك، نعم إن المسألة هنا تضامنية؛
فالمرء المتكلم يتحمل جزءاً كبيراً في عدم قابليته على
التعبير، ويتفاوت الناس في تلك القابلية، فنلحظ بوناً شاسعاً
بين شخص وآخر، وهذا يعود لجملة أمور، إن على مستوى التعليم،
وإن على مستوى الثقافة، والاطلاع الواسع، وغيرها، ولكن لا يعني
كل هذا تبرئة ساحة اللغة من أي مسؤولية أو قصور، وأنها كاملة
في أصل الوضع، لتستوعب كل الأفكار، وإلاّ لو كان الأمر كذلك
لما كان في الاستعمال اللغوي ما هو حقيقي وما هو مجازي،
ولأغنانا عناء تعريف شيء بتعريفين: لغوياً واصطلاحياً . أقول –
بلغة واصفة: إن الحقيقة التي يجب الإقرار بها أن اللغة
العربية، وربما كل لغات العالم، هي لغة حسّية، ويُرجع خليل
عبد الكريم ذلك لـتأثير البيئة الجغرافية التي نشأت فيها،
إذ يقول: "إن البيئة التي زاملت لغة بني يَعْرُب بن يَشْجُب
كانت ولا زالت بيئة قاسية متهجمة جافية عبوساً خشنة، وكانوا في
أدنى درجات السلم الحضاري، بل بغير مغالاة ودون مبالغة هم في
طليعة الشعوب التي خاصمتها الحضارة وأعطتها ظهرها، وظلوا على
تلك الحالة حتى القرن الثامن الميلادي عندما اختلطوا بالشعوب
ذات الحضارة الباهرة والثقافة الرفيعة والمدنية الزاهرة، إنما
في ذلك الوقت كانت لغتهم قد استوت على عودها وترسّخت قوائمها
وارتفع بنيانها، فلما مسّتها الحضارة وقتئذ لم تلامس إلا
الحواشي والأطراف وعوالي الفروع، أما سائر البدن (بدن اللغة)
فقد ظل منها دون تغيير وهو ما نقلته إلينا المعاجم والقواميس"[25].
إن اللغة لابد أن تتسم بسمات بيئتها، ويُضفى عليها من صفات
أهلها، فهي مرآتهم وما دام لغتنا قد نشأت وترعرعت في ظل تلك
البيئة (القاسية، المتهجمة، الجافية، العبوس، الخشنة) وإذا ما
أضفنا إلى ذلك ظروف المجتمع وطبيعته، التي هي بالضرورة لا
تختلف عن صفات تلك البيئة، فلا بدّ من أن تكون تلك الصفات هي
عينها صفات اللغة .
أديب كمال الدين
لم يفكر ولم ترد على باله عبارة (إن جاز التعبير) ذلك أن
التعبير تعبيره، هو من يسيّره ويوجهه أنّى شاء وكيف شاء، ومن
ثم، فإن اللغة لم تعد تتكلم – حسب التساؤل الذي يطرحه
لوسيركل : أنا أتكلم أم اللغة تتكلم ؟ ، فضلاً عن دعوى
لاكان : إن اللغة هي التي تتكلم الشخص وليس الشخص هو الذي
يتكلم اللغة – على اعتبار أن اللغة سابقة وجود الشخص/ طفلاً،
ومن ثم فهي التي تحدد موضعه، وهي التي تشكّله، وليس من السهولة
التخلص من آثارها في تشكيل كيانه -[26]،
حيث يرى بعض النقاد:"إن مذهب اللغة استطاع عبر صياغاته
المتماسكة أن يجعل العالم قاطرة تجرها أحصنة اللغة"[27]،
إلا أن كمال الدين استطاع أن يُفلت عربته من مقطورة
اللغة، ليُسيرها بحروفيته الخاصة، وقد بدا للباحث أن كمال
الدين بتحرره من سطوة اللغة قد تمثّل أحد وجوه جوهر
التجربة الصوفية التي تهدف إلى تحرير الذات البشرية من أسر
المادة، والانطلاق بها نحو عوالم الغيب والسمو[28].
إن ذلك التحرر – وإن كان على مستولى اللغة – فهو يمثّل قطيعة
مع الواقع، وصلة مع المتخيّل، ومن ثم فهي قطيعة ثقافية في وعي
التجربة الحروفية، أنها تجربة تتجاوز الواقع من أجل أن تُحسِن
الغوص في داخله، وتُحسن استقصاء ما يضمره[29].
وقد ذهب عبد القادر فيدوح : إلى أن
تحرر لغة الشاعر من عوائق المضمون يُعد تمرداً على
المرجعية الموجهة؛ فكأننا بالشاعر يفكر بالحواس، ويخترق الواقع
بالرؤيا الكشفية، حيث يكون كل شيء عنده مهيئاً للتبصر[30].
هذا التمرد على المرجعية هو تمرد على الهوية التي طبعتها حالات
التكيف مع الواقع الإجرائي، ليلتجئ إلى هوية الذات الراسخة،
مقابل الأولى الواهمة، فكانت هوية الذات مرقاة لاكتناه عالمه
الشعري؛ بوصفه منتوجاً يعكس صورتين متناظرين، تكمن الأولى
في صورة زيف الواقع، بينما تُعنى الثانية بما فوق
الواقع بعوالمه الممكنة، والصورتان تدفعان الشاعر إلى التماس
وسيلة تعبير مختلفة في نتاجه الكشفي، فالشاعر في اتخاذه هويته
الروحية وأصالته الإبداعية، ما ينم عن فطرته الإنسانية
الصافية، ورؤيته الكشفية الإبداعية، سواء بدافع رفع الشيء عما
يواريه في أنساق الواقع، أم بدافع معرفة ما وراء الإدراك، من
خلال صفات الحق وجوداً وشهوداً
[31].
ناقش وجيه قانصوه - في معرض حديثه عن لا اعتيادية اللغة
الدينية – حسّية اللغة وعدم قدرتها على استيعاب الأفكار
والمعاني الغيبية، خاصة في النص الديني، فيذهب إلى: أن للنص
الديني لغة خاصة وراء اللغة الاعتيادية، وتكون ذات منطق خاص
وبنية تركيبية تختلف عن لغتنا، تشكّل بمجموعها مائزاً ذاتياً
ومعرفياً، يشفّ عن نظام آخر ثانوي ثاوٍ وراء نظام اللغة
الأولي، يكون التعرف عليه مدخلاً لكشف قواعد إنتاج ذلك النص،
وطبقة المعاني القابعة وراء المعنى الظاهر الذي تحيل إليه
اللغة الأولى، فلا يمكن فك رموز هذا النص أو الكشف عنها إلا
بالتعرف على منطق ذلك النص والنظام التركيبي الخاص به. وبغية
إدراك هذه الحقيقة، علينا أن ندرك المفارقة بين حسية اللغة
الاعتيادية ومحدودية المعقول فيها وبين تعالي المعنى
المعَـبِّر في النص الديني، أي إنّ لا اعتيادية اللغة في النص
الديني نابعة من لا اعتيادية التصورات الدينية، التي لا تتسع
لها التعابير الاعتيادية النابعة من تجاربنا المحسوسة، التي
أشار إليها شلاير ماخر، حين أثار الأبعاد اللاعقلية
للدين التي تتجاوز المجال الإدراكي للعقل، حيث يرى: إن الدين
لا ينبع من قدراتنا العقلية، وإنما من اختبارات الكائن المحدود
في مواجهته لمحدوديته وهشاشة وجوده. وهذا ما يتساوق مع رؤية
كانت، أيضاً، في محدودية أو قصور اللغة الاعتيادية في
التعبير عن ما وراء الحس، فحين نتعامل مع لغة غير مرتبطة
مباشرة بالتجارب الحسية، نكون حينئذ نتعامل مع أفكار تخمينية،
ولا يمكن اعتبارها معرفة عقلية. فاللغة المتداولة بيننا تؤدي
وظيفتها بالكامل حين نستعملها للتعبير عن تجاربنا الحسية، فهذا
أساس تكوينها، أما حين ننقل التعبير إلى ميدان ما وراء التجربة
الحسية فإن اللغة المتداولة لا تعد مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة،
بل لا بد من ابتكار نظام تعبير آخر، وممارسة انتهاك لأساليب
التعبير المألوفة، ومن ثم تصبح لدينا لغة ثانية قابعة وراء
اللغة الأولى، تأخذ اللفظ إلى أمكنة معنى آخر، من دون أن تلغي
المعنى المعجمي، وتدخله في شبكة انتظامات وإحالات جديدة، تخلق
في النص الجديد عالماً جديداً متعالياً
[32].
إن مسألة حسّية اللغة هي مسألة عامة تشمل جميع لغات
العالم، ولا تقتصر على لغة بعينها، نعم إن التفاوت بين اللغات،
من هذه الناحية، موجود، لكن الظاهرة تشمل الكل دون استثناء،
كما أنها لا تُعد عيباً، لسبب بسيط جداً، هو أن اللغة – أي
لغة، ومهما ثرت ألفاظها - تبقى محدودة، بقبال لا محدودية
المعاني، فلا يمكن أن نتصوّر بشكل من الأشكال أن هناك لغة
تستوعب المعاني كلها، لأنه أصلاً
لا كل/ كلية للمعاني، فالمعاني هي من تشكيل الفرد،
والفرد بمقدوره أن يؤلف معاني لا حصر لها ولا انتهاء، ولا
بمقدوره هو، أصلاً، أن يتنبأ بها، فأنى باللغة وواضعها أن
يتنبأ بالمعاني التي يمكن أن تنتج منذ أصل الوضع اللغوي إلى ما
شاء الله تعالى، إذاً فاللغة محدودة والمعاني لا محدودة، وأنى
للمحدود أن يستوعب اللامحدود؟ وليس بعيداً عن ذلك ما ذهب إليه
أيمن عودة في تحليله النص الصوفي، حيث يقول: إن اللغة
تنهض في أصل وضعها لتغطي حاجة المجتمع في التواصل والتفاهم،
وكل ما يدخل في حيز الإدراك والمعرفة البشريين من المنظور
الحسي الظاهراتي، وقد عانت التجربة الصوفية من محدودية اللغة
في التعبير عن غير ما وضعت له، فأدركت أنه لا يمكن التعبير عن
كل ما يدخل في حيز المعارف الذوقية النابعة من خبرتها
(الصوفية) إلا إذا استخدمت إستراتيجيات تعبيرية غير معهودة
تنزع فيها إلى تغييب الألفة بين الألفاظ ومعانيها المتداولة
وتغريبها عنها واشتغالها باستحضار أفق دلالي جديد يحيل إلى
مضمرات معرفية مستمدة من ملابسة التجربة الصوفية والانفعال
لها، أي أنها قائمة على إستراتيجية الحضور والغياب، استحضار
المعنى الصوفي الغائب، وتغييب المعنى المعجمي الحاضر، على نحو
لا يحدث قطيعة كلية بينهما[33].
وإذا ما تفحّصنا النص الآتي سنلحظ ذلك بوضوح، حيث يصرح أديب
كمال الدين بقوله :
حرفي حرفٌ عجيب
يبحثُ في الماضي والمخبوء
يبحثُ في الغيمةِ والشعاع
يبحثُ في الظاهرِ والباطن
[34]
الشاعر في هذا النص يمنح حرفه صفة العجائبية؛ تلك التي تتخطى
المألوف وتقفز على سيرورة الزمن، وتمحي حدود المكان، لتخلق
الدهشة، ومن ثم فهو يُهيئ للحرف أسباب التنقل بين الماضي
والمخبوء، بين الغيمة والشعاع، بين الظاهر والباطن، ليُفعّل
الفعل العجائبي لاستكناه ما بين كل ذلك، إذ لولا الصفة
العجائبية لما تمكن الحرف من ذلك. وإذا ما أمعنّا النظر في
النص الآتي سنلحظ اتساع صيرورة الحرف لاستيعاب معاني الشاعر
بشكل لم تألفه اللغة في غير تلك التجربة، إذ يقول:
صرخ المغني من الأعماق
فتحوّلتُ إلى حاء وتاء وجيم
وصرتُ كافاً بشوقي
في حضرةِ الكافِ
الكبرى
[35].
نلحظ في هذا النص أن الشاعر قد تجلى في الحرف (تحوّلت
إلى حاء ..) و(صرتُ كافاً) هذا التجلي لم يكن لولا اتساع الحرف
من خلال منحه البعد العجائبي، وكأن أديب كمال الدين
استشعر ضيق عبارات اللغة في اتساع رؤياه، أي كما قال
النّفّريّ "كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة "[36]،
فلجأ الشاعر إلى أن يشق لنفسه عبارات حروفية تسع رؤاه، ولكن
أنى للحرف / الجزء أن يسع ما ضاقت به الكلمة / الكل؟ ربما هي
المرجعية الصوفية التي أسست لهذا النسق، تجلي الكل في الجزء،
حيث نجد الرؤية المعرفية في التجربة الصوفية قائمة على تفاعل
أطراف ثلاثة متباينة؛ هي: الحق والكون والإنسان، وفيما يبدو أن
الإنسان محور هذا التثليث، والعلامة الكبرى والأكثر بروزاً في
الدلالة على الحق المطلق، إلى مدى يمكن اختصار هذا التثليث إلى
ثنائية، بإضمار الكون في الإنسان، كما في قول النفّـري:
أنت معنى الكون كله[37].
تَمثَل أديب كمال الدين هذه الفكرة ليجعل من الحرف
معادلاً موضوعياً للإنسان/ ذات الشاعر، والحياة والكون، ليتجلى
ذاك كله في الحرف ومن خلال الحرف، ليصبح الحرف هو الموت
الأعظم، وهو الاحتجاج على الموت والالتفاف عليه، في آن، فلا
غرابة بعد كل هذا، في أن يكون الحرف معنى الكون كله .
تمثّل أديب كمال الدين القرآن الكريم والتجربة
الصوفية مرجعيتين أساسيتين له، حيث صرّح هو بذلك "أنا كائن
قرآني صوفي حروفي"[38]،
بيد أن هاتين المرجعيتين باديتان وضوح الشمس في شعره،
فالأولى: بدت على عدة مستويات بدءاً من افتتاح بعض سوَر
القرآن بالحروف، وقسم رب العزة ببعضها، وربما هو الذي قدح فكرة
التأمل في الحرف في ذهن الشاعر، إذ يرى الشاعر: إن الحرف الذي
حمل معجزة القرآن الكريم لابد أن يحمل سراً أو معجزة خاصة به،
فضلاً عن أن الله تعالى قد قَسَم ببعض الحروف في مفتتح بعض
السور، وهذا دليل على وجود سر إضافي[39]،
شغل هذا السر أديب كمال الدين، ورأى أن الحرف ليس أنه
لم ينل نصيبه من الاهتمام، بل هو غير مفكر به أصلاً في المدونة
الفكرية والأدبية العربية، فكرّس أغلب جهوده في خدمة الحرف،
ومحاولة كشف أسراره، فهو ربما لا يعنى كثيراً بإبراز الجمال
بقدر ما يعنى باكتشاف أسرار الحرف، فمما يؤكد تمثّل المرجعية
القرآنية قوله :
وقالَ: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس و ق و ن
فكيفَ لكَ أن تتقبّل سرَّ السر[40]
مروراً بكثرة
تناصه مع جملة من آيات النص القرآني، والتي منها – لا على سبيل
الحصر -:
- وقد ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم ؟ ......
وأقرب من حبل الوريد ؟[41]
وكذلك :
- ولتكن رحمتك
أربعةً من الطير يأتين سعياً
[42]
أما المرجعية الثانية / الصوفية فنلحظ تمثلها أما من خلال
تصريحه المباشر:
اقتبستُ من النّفّريّ جملةَ البدء
ومن دمي جملةَ المنتهى[43]
أو من خلال تضمين شعره لأسماء أشهر المتصوفة: كـالنفّري وابن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج، أو من خلال تمثله لمواقف النّفّريّ عبر ديوانه : مواقف الألف؛ لاسيما في عبارة (أوقفني وقال لي) على أن الوقفة، من منظور الرؤية الصوفية، هي مقام وليس حالة عرضية أو اعتباطية، فهي تعني لديهم "الحبس بين مقامين لعدم استيفاء حقوق الذي خرج منه وعدم استحقاق دخوله في المقام الأعلى، فكأنّه التجاذب بينهما"[44]، بمعنى أنها مقام تمهيدي مؤقت بين مقامين يستلزم قضاء ما بقي من حقوق المقام السابق بغية التهيؤ للمقام اللاحق، يسعى الصوفي لتحصيله من خلال سلوكيات معينة ورياضات محددة، والوقفة، من منظورهم، لا تعني التوقف أي اللاحركية، بل هي الحركة الدائبة، حيث يصرح النّفّريّ : " وقال لي : لا ديمومة إلا لواقف، ولا وقفة إلا لدائم"[45]، وعلى وفق مقام الوقفة يكون الواقف على استعداد لتلقي الفيض الإلهي بعد أن يبلغ مقام الرؤية والفناء في الشهود[46]، وهذا ما تشي به عبارة (أوقفني وقال لي)، ومن ثم فإن مواقف الألف بالنسبة إلى أديب كمال الدين هي مقام تلقي الفيض الحروفي؛ من ذلك قال: (الحرف حرفي، ستجده في كهيعص وألم وطه ويس ...) . أومن خلال تمثل المعجم الصوفي، على مستوى العبارة والتركيب :
وصرتُ كافاً بشوقي
في حضرةِ الكافِ الكبرى
[47].
ولكن السؤال الذي يمكن أن يطرح، إذا ما كان الأدب /
الشعر، رسالة،
ولكي أن تكون الرسالة فاعلة –على وفق نظرية جاكبسون -
تقتضي نسقاً مشتركاً بين المرسل والمرسل إليه، وإذا ما حاولنا
تطبيق هذا على حروفية / شعرية أديب كمال الدين – الذي
ندعي أنه قد اجترح أبجدية خاصة به – نكون قد وقعنا في مطبٍ لا
يسهل الخروج منه، يتمثل في كيفية تحقق التواصل في شعر أديب
كمال الدين بانعدام النسق المشترك/ الشفرة بين المرسل
والمرسل إليه؟ حتى إذا ما عللنا ذلك
بالمقارنة بين تجربة كمال الدين والتجربة
الصوفية، والتي تشابهها إلى حدٍّ كبير، يمكن أن يقال : إن
التجربة الصوفية قد صيغت خصيصاً لتكون غائمة على العامة،
منكشفة على المتصوفة، فتجربة كمال الدين، غائمة على
مَن، منكشفة لمَن؟ لاسيما أنه يصرّ على ذلك الغموض إذ يقول :
يقولُ
النحويّ: سأضعُ النقاطَ على الحروف
ويقول الفيلسوفُ : أضع النقاط على الحروف
ويقول المغنيّ :ها أنذا أضع النقاط على الحروف
أنا الوحيد الذي قلت :
سأمسحُ النقاط عن الحروف
لأضيع في جنوني القادم
في نونكِ التي أضاعتْ نقطتها
في الزحام والثرثرةِ والخوف من الشوارع المظلمة
[48].
فمثلاً كيف محاولة قراءة النص الآتي :-
أيّتها النون
أرسلتُ إليك الشين ، هل وصلتْ ؟
وأرسلتُ إليك اللام ، فهل وصلتْ ؟[49]
فإذا ما اجتهدنا في تفسير النون بالأنثى، وفق معطيات ثقافية،
يمكن أن تكون دوالاً استرشادية، كنون النسوة التي هي باتت
رمزاً للمؤنث، و (ن) والقلم، التي فُسرت – على رأي – بالدواة /
المحبرة . فكيف يمكن تفسير (الشين) و (اللام) وإلى ماذا يرمزنّ
؟
للإجابة
على هكذا سؤال يمكن القول :
1-
إن حروفية أديب
كمال الدين – إن لم يكن هناك دوال استرشادية أو قرائن نصية
– فهي في بعض اشتغالاتها، لا تعني الحرف بذاته، بل كينونة
الحرف كاسم جنس، ليكن الواحد ممثلاً للمجموع، ومن ثم ليصبح
وجود حرف معين، ماهو إلا ملء فراغ حرْفي داخل اللوحة الشعرية،
أقول فراغاً حرْفياً لأنه لا يملؤه إلا الحرف تحديداً، ومن ثم
يكون حينئذ، يمكن استبدال حرف بحرف آخر، ما لم يكن هناك موانع
ثقافية أو قرائن سياقية تمنع ذلك، أي إذا استبدلنا (الشين)
بــ(السين) و (اللام) بـ(الراء)، مثلاً، في النص أعلاه، ففي
رأي الباحث أن الأمر لا يختلف شيئاً، لتكون المقطوعة
في الفرض أعلاه كالآتي :
أيّتها النون
أرسلتُ إليكِ السين، هل وصلتْ ؟
وأرسلتُ إليكِ الراء ، فهل وصلتْ ؟
2-
ينبغي قراءة مضمون الحرف (رمزاً ، قناعاً ، إشارة) على وفق
تجربة الشاعر بكاملها، فهو قد اجترح رموزاً و أقنعة لبعض
الأحرف، لا يمكن الاهتداء إليها إلا من خلال الاطلاع على
التجربة الحروفية كاملة، فتكون قراءتك، حينئذ، "أن تقرأ الحرف
في انعطافه على داله، وفي إيماءته على نفسه ليستنطق دلالته،
وكأنك تقرأ اللغة باللغة التي تحتوي الشيء في مرامه، ضمن سياق
اللغة الواصفة في تأملها الأشياء باستمرار"[50]،
ذلك أن في تجربته – كما ترى بشرى موسى - يكون الجزئي
ملتحماً بالكلي، والبنية النصية دالاً شمولياً على النتاج
الشعري برمته[51]،
أي إذا ما كان الحرف يسهم في إنتاج دلالة رمزية، على وفق
الرؤية الفنية في تجربة كمال الدين الحروفية ، فإن
السياق التعبيري بصيغه المجازية هو الذي يحيل إلى ما تشير إليه
الحروف في محتواها الرمزي الداعي إلى التأويل[52]،
من ذلك نجد أنه قد رمز بالكاف إلى الذات الإلهية
حيث يقول :
أيتها
الكاف
شيئاُ من رحمتكِ التي وسعتْ كل شيء[53].
فيما رمز بالنون إلى المرأة/ حبيبته، ولذاته بالألف، حيث قال :
تهبطُ أمطاراً على صحارى النون
علّها تخضرُّ فتخرج قمحَ الألف[54]
3- إن مرجعية أديب كمال الدين القرآنية و الصوفية قد سوغت له ذلك الغموض والإيهام، فالقرآن الكريم الذي هو {... هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة : 158) لا زالت الحروف المقطّعة، في مفتتح بعض السور القرآنية، لم يُكتشف كنهها لحد الآن، وقد أوكل أمر العلم بها إلى الغيب، على أنه لم يقفل الخوض في قراءتها وكشف أسرارها، لذا نجد الشاعر قد أكد أن كينونة حرفه توجد في كينونة الحروف المقطعة في القرآن الكريم، إذ قال :
وقالَ : الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس و ق و ن[55]
على أن الباحث لا يدعو هنا إلى إيكال أمر حروفية كمال الدين
إلى الغيب، بل ما يعنيه أن بعض تلك الحروف هي من قبيل النص
المفتوح القابل للقراءة والتأويل أي الذي يشترك المتلقي في ملء
فراغاته، بمعنى أن وظيفة الحرف تكمن في كونه وسيطاً دلالياً
يشترك المتلقي في إنتاج معانيها، على وفق تجربته الحياتية،
فتكون أشبه بالبويضة التي يلقحها فكر المتلقي، فيولد المعنى
حاملاً جينات المتلقي القرائية، والتي هي تختلف بالضرورة من
متلقٍ إلى آخر. وأما التجربة الصوفية فإن الغموض والتعتيم
والإيهام هو إستراتيجية نصوصها، أو لنقُل هي نسق ثقافي صوفي،
ذلك "أن الصوفي يؤسس وجوده على التعارض مع الآخر، والاختلاف
معه في الرؤية والوسيلة والهدف"[56]...
ومن ثم فإن بعض حروفية كمال الدين هي أما على وفق
المرجعية الأولى (الحروف المقطّعة في القرآن الكريم)، وأما على
وفق المرجعية الثانية/ الصوفية، وهو حينئذ من قبيل النص ذي
المعنى التركيبي لا المعنى اللفظي، الذي يكون للحدس والسياق
العام مدخلية مركزية في تأويل الحرف وكشف مدلوله.
4-
حروفية كمال الدين تخلق فضاءً افتراضياً، ليصبح شعره
الحروفي لعبة شعرية، وعلى القارئ، إذا ما أراد أن يدخل في تلك
اللعبة، أن يتواطأ مع شروطها، والتي تفترضها اللعبة ذاتها،
ليستمتع بمتاهات الحرف وانكشافاته، وانفلاته من التنميط أو
الإذعان لطاعة النسق، وتقلباته في الذات أو تقلب الذات في
تضاعيف رسمه، ليصبح الشعر، والحال هذه، مغامرة جنونية، فهاهو
يصرح :
أعظمُ ما في الشِعر
أنّه يصيّرُ جنوننا الفادح
حروفاُ لا معنى لها !
[57]
وعليه يمكن القول أن الشعر الحروفي لدى أديب كمال
الدين، جاء منفلتاً من نسق الشعر العربي المعاصر، انتصاراً
للهوية الذاتية على الهوية الجمعية، على وفق رؤية ما بعد
حداثوية ترى بضرورة الانتصار للنزعة الذاتية المنفلتة عن كل
مقولة مركزية، وهذا ما أكده عبد القادر فيدوح الذي يرى
: أن شعر كمال الدين جاء على وفق الرؤية الشعرية
المعاصرة، والذي تقوم القصيدة فيه بالكشف عن أنظمة العلامات،
وهي أنظمة قوامها الإبانة عن الجنوح الذي تمارسه الذات، وتسهم
في تشكّيل المعنى عبر القيمة الدلالية المرتبطة باللفظة والتي
تستمد شرعية سمتها أما من العبارة اللغوية أو من البياض
الباني، ذلك أن الفكر البشري في بداية الألفية الثالثة، أصبح
يتيح للنزعة الذاتية أن تنظّم عالمها المستقل، ولعل
الاستقلالية المقصودة هنا: هي توسيع النشاط غير المشروط في
حدوده اللامتناهية والمرنة لرؤيته المعرفية والسلوكية، مما زاد
توجه الممارسة التلقائية، وهذا ما أتاح للنص الأدبي – كغيره من
المعارف – أن يتشعّب انطلاقاً من فكرة خلية النص الرحمية[58]
.
على أن أديب كمال الدين بما خطّ لنفسه من شعرية جديدة /
الشعرية الحروفية، يكونقد اجترح لنفسه هوية جديدة ينماز بها عن
شعراء جيله, وهذا لا يعني بأنه خرج عن أنساق المنظومة
الثقافية، بل على العكس تماماً حيث رصدت الدراسة جملة من
الأنساق الثقافية التي مارسها الشاعر في تضاعيف شعره، أو هي
التي تسللت إلى تلك التضاعيف، والتي منها – على سبيل المثال لا
الحصر- (نسق الذكورة، نسق السحر والتنجيم، نسق البحث عن
الخلود، نسق القسم، نسق الصمت، وغيرها الكثير – والتي ستُرصد
في تضاعيف هذا البحث إن شاء الله).
[1]
- حوار مع الشاعر: أديب كمال الدين، حاوره : اسكندر
حبش، جريدة السفير اللبنانية ، عدد 12570 ، في
4/9/2013.
[2]-
ايقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص9.
[3]
- ينظر: الواحد والمتعدد،ص13.
[4]-
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين ، ج1، ص56.
[5]-
المصدر نفسه، ج2، ص174.
[6]-
الأعمال الشعرية، أحمد بخيت، مجلد 2، دار كليم للطباعة
والنشر، ط1، القاهرة، 2012، ص478.
[7]-
الحديث صححه الألباني في باب حد الزنا ، لكن بلفظ (
المرود / المكحلة) .إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار
السيبل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي،
ط1، بيروت، 1979، ج8، ص28.
[8]-
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص15.
[9]-
ينظر: الهوية والآخر قراءات في ضفاف النص
الشعري، صالح زامل، مكتبة عدنان للطباعة والنشر
والتوزيع،ط1، بغداد، 2012، ص66- 68.
[10]-
ينظر: حوار مع الشاعر: أديب كمال الدين ، حاوره :
اسكندر حبش، جريدة السفير اللبنانية، عدد 12570، في
4/9/2013.
[11]-
الهوية والآخر قراءات في ضفاف النص الشعري، صالح زامل
، ص34.
[12]
- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص15.
[13]-
مواقف الألف، أديب كمال الدين، ص12.
[14]-
ينظر: حوار مع الشاعر: أديب كمال الدين ، حاوره :
اسكندر حبش، جريدة السفير اللبنانية، عدد 12570، في
4/9/2013.
[15]
- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص16.
[16]
- ينظر: أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص103.
[17]-
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص181.
[18]-
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص190.
[19]-
ينظر: الواحد والمتعدد، ص16.
[20]
- ينظر: بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، تر: محمد الولي
و محمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1986،
ص14-15.
[21]-
الصوفية والسوريالية، أدونيس، دار الساقي، (د.م) (
د.ت) ط3، ص185.
[22]-
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص191.
[23]
- زمن الشعر، أدونيس، ص294.
[24]
- ينظر: عنف اللغة، جان جاك لوسيركل، تر:محمد بدوي،
الدار العربية للعلوم،ط1، بيروت، 2005، ص7.
[25]
- العرب والمرأة حفرية في الإسطير المخيم، خليل
عبد الكريم، الانتشار العربي ، ط1، 1998، ص21.
[26]
- ينظر: عنف اللغة ، ص14.
[27]
- أيقونة الحرف وتأويل العبارة ، ص107.
[28]
- ينظر: نظرات في التصوف والكرامات، محمد جواد مغنية،
منشورات المكتبة الأهلية، بيروت ، ص18.
[29]
- ينظر: الصوفية والسريالية، أدونيس، ص185. (ينبغي
التنويه إلى أن أودونيسيتكلم عن تجربة النّفّري
الصوفية، لا عن التجربة الحروفية).
[30]
- ينظر: أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية ، ص94.
[31]
- ينظر: المصدر نفسه، ص29.
[32]
- ينظر: النص الديني في الإسلام من التفسير إلى
التلقي، وجيه قانصوة، دار الفارابي، ط1، بيروت، 2011،
ص258- 260.
[33]
- ينظر: لغة الحرف والمحروف من منظور الخبرة
الصوفية
بين النفّري وابن عربي، أيمن يوسف عودة ، المجلة
الأردنية في اللغة العربية وآدابها، المجلد(8)
العدد(3) ، 2012،
ص20.
[34]
-الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين: ج1، ص85.
[35]
- المصدر نفسه، ج1، ص30.
[36]
- كتاب المواقف ويليه كتاب المخاطبات ، محمد عبد
الجبار النفّري، بعناية : أرثر يوحنا أربري، منشورات
دار الجمل، ألمانيا ، طبعة طبق الأصل عن ط1، 1996،
ص51.
[37]-
ينظر: لغة الحرف والمحروف من منظور الخبرة الصوفية بين
النفّري وابن عربي، أمين عودة ، المجلة الأردنية في
اللغة العربية وآدابها، المجلد(8) العدد(3) ، 2012،
ص14.
[38]
-
حوار مع الشاعر أديب كمال الدين، حاوره: عذاب الركابي،
موقع : ميدل أون لاين الألكتروني، 11/1/2012.
[39]-
ينظر: حوار مع الشاعر أديب كمال الدين ، حاوره: عذاب
الركابي ، موقع : ميدل أون لاين الألكتروني ،
11/1/2012.
[40]-
مواقف الألف، أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم
ناشرون، لبنان ، ط1، 2012، ص30.
[41]-
نفس المصدر، ص25.
[42]
- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص22.
[43]
- المصدر نفسه، ج1، ص11.
[44]-
التوقيف على مهمات التعاريف ، محمد عبد الرؤوف المناوي
، تح: محمد رضوان الداية ، دار الفكر، بيروت ، ط1،
1410هـ ، ص732.
[45]-
المواقف والمخاطبات، ص 10.
[46]
- ينظر: مواقف النّفّري دراسة في التراكيب
ودلالاتها ، علي موسى الكعبي، دار ومكتبة البصائر
للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، ط1، 2011، ص49.
[47]
- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص30.
[48]
- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص46
[49]
- المصدر نفسه،
ص33.
[50]-
أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية ، ص33.
[51]-
ينظر: الواحد والمتعدد ، ص13.
[52]
- ينظر: أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية ، ص34.
[53]-
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص38.
[54]-
نفسه، نفس الصفحة.
[55]-
مواقف الألف، أديب كمال الدين، ص30.
[56]-
أثر الأنساق الثقافية في تشكيل الخطاب السردي
الصوفي، ناهضة ستار عبيد، مجلة القادسية للعلوم
الإنسانية، المجلد الحادي عشر، العدد4، 2008، ص165.
[57]
- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، ج1، ص47
.
[58]
- ينظر: أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية ، ص102. |
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة