قرأت بشغفٍ عميق المجلّد الأول من
الأعمال الشِّعريّة الكاملة
للشاعر العراقي أديب كمال
الدِّين، المقيم في أستراليا،
الصادر حديثا عن منشورات ضفاف في
بيروت محتوياً على مجاميعه :
(نون، أخبار المعنى، جيم، ديوان
عربيّ، تفاصيل).
وتمتّعتُ بقراءة قصائد
عاجّة بعوالم حروفيِّة تشهق
ألقاً، منبعثة من مخيّلة معتَّقة
بحنين الحروف إلى مهجة الضَّياء،
معرَّشة برعشة الرُّوح الجَّانحة
نحو أصفى ما في حفاوة الحرف من
بهاء:
(أيّتها القاسية
أيّتها الغامضة
حُبّنا بحاجةٍ إلى معجزةٍ ليولد
وإلى معجزتين لينمو
وإلى مائة معجزةٍ لينطفِئ).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
104)
يستخدم الشّاعر خبراته الفنّيّة
بالتَّرميزات الغارقة في انصهار
شهوة الحرف في شهيق الحياة،
سابغاً ذاته المحلِّقة نحو مسارب
القصيدة، بكلِّ تجلِّياته، غارفاً
من غربته، مماحكاته، شوقه، حنينه،
حيِّه، أصدقائه، صديقاته، أسرته
وأحلامه الجّامحة في حبر القصائد،
فتأتي القصيدة مشحونة بألوان
حروفِ الحياة!
(ما أن تراكِ الأبجدية
حتّى تنفض عن ثيابِها
النومَ والنسيانَ واللامبالاة
لتأخذ من كفّكِ شمسَ الحنان
وينبوعَ الصحو
وإناءَ الانتباه
وملعقةَ الحُبّ
وملحَ الطمأنينة).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
23 )
تبدو أحلامه مترعة بالقلق
ومتشظِّية على مدى رحابةِ خيالٍ
مستطيرٍ نحوَ فجرٍ مرصرصٍ بآهاتٍ
من كلِّ الجّهات، دامغاً حرفه من
مسارب تدفُّقات الحلم العميق،
باحثاً وهو في لجَّة الإشتعال عن
أحلامٍ شعريّة عميقة، تضاهي ما
يراود الكثير من شعراء هذا
الزَّمان؟!
(انظري الآن
يا حبيبتي
إنّ في الحرفِ لسحراً
يطوّقكِ فلا مهرب عنه
إلّا إلى الضياع.
أنا أنتظرُ أن تضيعي
وتذوبي
وتمّحي
لأدفن جسدَكِ البضَّ في شمسٍ من
الحروف).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
24 )
يجسِّد ما ينبعثُ من حفاوةِ
الحروف، بوهجٍ شعري منساب كأنّه
يصيغُ حنين العشّاق إلى اللَّيالي
القمراء، معتبراً أنَّ حلمه
الأبقى هو الشِّعر، هو هذا
الاستبطان لحبقِ الشِّعرِ
المتدفّق من شهوة جموحاتِ الحرفِ،
من أسرارِ الحروف المتلألئة في
ذاكرة الشَّاعر، وكأنَّ الحروف هي
حبق خياله السَّيّال، فنراه
يستبطنُ أسرار الحروف المسترخية
في ذاكرة مسربلة بآهاتِ الأيَّامِ
والشُّهورِ والفصول. يسطع حرفه
كأنّه يتعانق مع ذاته التَّوّاقة
إلى عذوبةِ الأنهارِ الصَّافية،
ذاته المزدانة بألق الصَّباح، كي
يلامس مخياله ندى الرَّبيع في أوج
بهاء إشراقة الشَّمس، هارباً من
أنين الحروب، ومن غربة مقمَّطة
بأحزان ترهقُ كاهلَ الجِّبال، كي
يمهرَ وجنةَ الصَّباح بحبور الحرف
المتعانق مع حبَّاتِ المطرِ وهي
تتهاطلُ من مآقي السَّماء!
(إذا ضاعت النونُ منّي ذات يوم
فمَن الذي سألتجئ إليه؟
سألتُ الأبجديةَ جميعها حرفاً
حرفاً
فلم تعطني جواباً شافياً
إلّا النقطة باركتْني
وقالتْ: إذا خانت النون فعليكَ بي
أنا نقطتها
أنا سرّتها
أنا فحواها
أنا ذكراها الضائعة).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
128 و129)
يكتب الشَّاعر أديب كمال الدِّين
القصيدة، وكأنّه ينبش أسرار تشكيل
الحرف الأوَّل، ويعيد تكويرة
الحرف إلى معابد عشتار، وشموخ
نخلات العراق الشَّامخاتِ في وجه
الزّمن، مجسِّداً صفاء دجلة وهو
في حالة عناقٍ عميق مع اهتياج
الفرات في أوج إنبعاث ألق
القصيدة، محاولاً الولوج في
منعرجات حضارة الحرف المستولدة من
بلاد الرَّافدين، حضارة الحضارات،
فتولدُ القصيدة على إيقاع الحلم
المنساب نحو بيادر الرُّوح
الغارقة في رفرفات بهجةِ
الإبتهال، كأنّه في حالة صوفيّة
مسترسلة في ضياء كنوز خفايا
القصيدة، تاركاً بصمته متربّعة
فوقَ مرامي الرّوح المندلعة من
تلألؤات نجوم اللَّيل!
(سأمنحكِ أيّتها النون المجنونة
بالجمالِ والانكسار
مجدَ الكلمة،
وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقيّة،
وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّيّ عظيم
بتاجِ الحروف
وقلادةِ الكلمات
وطيلسان القصائد
ووسامِ الهيام
وعصا السحر).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون ،
ص 16 ).
يشعلُ الشَّاعر شموع حروفه كي
يضيء القلوب المنكسرة، ما فاتها
من ليالٍ مظلمة وظالمة، كي يضيء
الرُّوح برضابِ الإخضرار، كي
يزرعَ في أحلامِ النّهار، أغاني
الفرح الآتي، متسائلاً هل ثمّة
فرح في قادمِ الأيَّام ونحن
نزدادُ غوصاً في سراديبَ دكنةِ
الحروفِ وإنشطارِ شراهاتِ
الإشتعال لخاصرة الأوطان؟!
)ما
أن تراكِ الأبجدية
حتّى تنفض عن ثيابِها
النومَ والنسيانَ واللامبالاة
لتأخذ من كفّكِ شمسَ الحنان
وينبوعَ الصحو
وإناءَ الانتباه
وملعقةَ الحُبّ
وملحَ الطمأنينة(.
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون ،
ص 23 ).
يكتب الشّاعر مسارات حروفه
بفرادةٍ حميمة، مرتكزاً على
هلالات الخيال، ومستوحياً من
بسماتِ الطُّفولة مذاق القصيدة،
مجسِّداً بإنسابيّة شفيفة
تجلِّيات ذاكرة مصهورة بحبر
الحنين، راصداً شراهات الشَّفير
المفتوح فوق رقاب الوطن،
متحدِّياً سيوف الظُّلم
والطُّغيان وعنجهيات الحروب
الطَّاحشة بفظاظةٍ مميتة فوقَ
رموشِ الأطفالِ الغضّة، فارشاً
جناحيهِ على شساعةِ بوحِ القصيدة،
كأنّه في حالةِ هيجانٍ مفتوح
لتصدِّي مرارات الأنين المستفحل
فوق أشجار النَّخيل، ووجنة
العراق:
(سقطَ الساحرُ من مائدةِ السحرِ
على الأرضْ.
فتمزّق صوتُ الماءِ بكفّيه. بكى،
واهتزَّ كما يهتزُّ الطائر
حين تُمرّر سكين الذبحِ على
الرقبة.
الأرضُ تكرّرُ لعبتَها. ما كنتُ
أكون. الغيمُ يجيءُ ويذهبُ
والفجرُ يطرّزُ حرفَ الدهرِ فلا
معنى أبداً. أختبئُ اليومَ كطفلٍ،
أرنو للفجرِ، أقرّرُ أنْ
أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم،
يذهب
سيف الظالمِ في الظلماتِ. فما
أحلى الكلمات! وما أسخفها!
سقطَ الساحرُ. كانتْ امرأةُ
الساقين الفاتنتين تهدهد...
لا معنى لإعادةِ مشهدِ حبٍّ
مكرورٍ ملتهبٍ، لا معنى.
المرأةُ واقفةٌ خلف الشبّاك وخلف
المكتب، خلف زجاج الباص
وما مِن شيء ينقذها. سقطَ الساحرُ
من مائدةِ الفعلِ، فعضَّ
يدي، قالَ: سأقتصُّ من الظالمِ.
هدّدني بعيون الجمرِ، تقدّم
من دائرةِ السيفِ وأطلقَ جمْعَ
طيورٍ ملأتْ جوَّ الغرفةِ
بالهذيانْ.
أكتشفُ اللحظة أنّ الساحرَ
مسحورٌ، أنّ الساحر يبكي كالطفل..
نظرَ الساحرُ لي، قالَ: بأنّي
الطفل.
فتعجّبتُ من القول
ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ
سوداءْ.
قامَ الساحرُ بالرقصِ، اختطَّ لنا
أرضاً تكفي لكلينا، قالَ: هنا
نرقصُ- واختطَّ بجانبها أرضاً
أصغر- وهنا سنموت).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ أخبار
المعنى، ص 135)
يستولدُ الشَّاعر حروف القصائد
على إيقاعِ زخّات المطر، غارفاً
حبره من عوالمه المضمَّخة بأسئلةٍ
متدفِّقةٍ من أعماقِ الجّراحِ
الخفيّة، فتنمو القصيدة عبر ظلال
متعانقة مع غربة مكثّفة بمرارات
متشظّية على مساحات ألق الرّوح
وهي تناجي ضياء النُّجوم، ملتقطاً
بهاء حرفه من جرّاء تفاقمِ آهات
لظى الإقتتال، معبِّراً بطفوحِ
إنسيابيّة دمعته المتناثرة على
خدودِ أوطانٍ تاهت عن مساراتِ
ضرعِ الحياة، مناجياً رحاب الغيب،
أسرار اللَّيل والنّهار،
متوقِّفاً عندَ سراديبَ الرّحيل،
غير آبهٍ بكلِّ ما يعتريه من
غربة، من جراحٍ غائرة في أعماق
مرامي الحنين، فارشاً أشواقَ
حروفه فوقَ تماوجاتِ انبعاثِ
القصيدة، مبلسماً أحلامه الوارفة
بالأمل المستنبت بأزاهير معبّقة
بحفاوةِ الحياة، كأنّه في رحلة
حلميّة بين أسراب العصافير، يسبح
في الماء الزُّلال، محلِّقاً في
زرقة السَّماء، بين طيَّاتِ
الغمام، مسترخياً جناحيه
المفروشَين فوق ذاكرة طافحة بدموع
الأمّهات وآهاتِ الآباء وهم
يودّعون أبناءهم نحو واحات
الضَّباب، ومرصرصة بأسوارٍ مشبّعة
بتشظّياتِ شفير الإنشطار. وجعٌ
على مساحات شهوة الحنين إلى
الأزقّة القديمة، حيثُ ألعاب
الطُّفولة تنفرش على رحابة
ارتعاشات ابتهالات القصائد!
يغوصُ أديب كمال الدِّين، عميقاً،
في صفوةِ ينابيعَ الحروف،
لاستكناه جراحه المستفيضة من
آهاتِ وطنٍ غارقٍ في التِّيهِ
والتَّشظِّي والجِّراح والبكاء
على مدى رحابةِ الدُّموع، مناجياً
أبجديات الوجدِ المتنامي في صفاءِ
روحانيّته المتهاطلة من بؤرة
خيالٍ مطلسمٍ في براري جراحِ
القصيدة! راسماً عالماً مشحوناً
بشهوة حرفٍ مضرّجٍ بنضارة
النَّدى!
(مرّتْ سبعٌ مثمرةٌ بالموحش من
أخبارِ الطيرِ وأخبارِ الوحشِ،
الناس. ومرّتْ سبعٌ مثمرةٌ بالطيّبِ من
أخبارِ العسلِ الأسْوَد والزنبقِ
والماء. ومرّتْ
سبعٌ لاهيةٌ لا تعرفُ بيتاً أو
عنواناً أو معنى، وأنا أتجلّى في
لغةِ الجسدِ الغامضِ. أمحو
أمطاراً لم تسقطْ وغيوماً لم
تفزعْ وبحيرات من أسباخِ طفولتي
المُرّة. أشكو وجعي للسنواتِ، وما
مِن سنوات تقدرُ أنْ تفهم
هذا الوجع الأزرق. أشكو
معناي المقتولَ إلى
الكلماتِ الفضّةِ: لا
جدوى، الكلماتِ الرملِ: فلا
جدوى، الكلماتِ النارِ: فلا جدوى،
أخرجُ مفزوعاً. دارتْ دائرةُ
السعفِ العالي في جسدي:
والريحُ مضتْ. سنواتٌ انقرضتْ:
ماذا أفعلُ كي أنجو من حلمٍ
يتلبّسُ خاصرتي، يأخذني للمنفى،
يدفنني حيّاً، يخرجني، يوقفني قدّام الله وحيداً
ويضيّعني كي
يلقاني في الليل فيقطع رأسي إذ أعبر
جدران الحكمة؟ يهوي الرأسُ بنهرِ
الطابوقِ المنهارِ. أصيحُ بجمْعِ
الناسِ: "و...هذا رأسي
فانتبهوا"! يبقى الجسدُ المدهوشُ
عنيفاً لا يعرفُ للموتِ طريقاً أو
معنى).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ أخبار
المعنى، ص 138 ).
يستبطن الشّاعر عوالمه الباطنيّة،
كأنّه في حالةِ حوارٍ مع الذَّات،
معبِّراً عن هواجس شعريّة فيها من
ألق المغامرة وكشف بواطن الأسرار
الشَّيء الكثير، من خلال استنباط
أسئلة حافلة بمذاقات الوجود،
موغلاً في مغاليقَ صفوة الرّوح
الباطنيّة، كأنّه في رحلة استكشاف
مسارات انبلاج أحلامه الغافية في
مرافئه الجُّوانيّة، كي يرسم
هواجسه المنبثقة من أغواره
السَّحيقة على وجنةِ الحروف،
بإيقاع ابتهال تجلِّيات الرّوح
الهائمة فوق براري الذَّاكرة
البعيدة، حيث بسمة الأمل ساطعة
فوقَ مآقي الطُّفولة، كأنَّها
هلالات شموعِ مضيئة فوق قبّة
الرُّوح التَّواقة إلى منارات
بوحِ القصيدة:
(في
نونكِ جلستْ روحي ما بين الحروف
ووسط النقاط
تتأمّل
وتنجو
وتعلو
وتمحو
وتنأى).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون،
94 ).
يتميّز أسلوب الشَّاعر المبدع
أديب كمال الدِّين، بإيغاله
العميق في صهر مغاليق رموزه
المتعلّقة بأبعادها الصُّوفيّة
المستنيرة، من خلال تجسيد وهج
الوجْدِ الصُوفي ضمن فضاءات
شعريّة معبَّقة بالتَّراث الأصيل،
والإيمان والتَّأمُّل، فنراه
يشكِّل رؤاه ضمن تماهيات شعريَّة
ضاربة في منعرجات أفكار ساطعة على
أسرارِ ودلالاتِ الأساطير، كأنّه
في حالةِ تجلٍّ وتواصلٍ مع رؤى
منبعثة من إشراقاتِ الأساطير
الغابرة ضمن بوحٍ شعريٍّ منساب مع
روح المعاصرة، وكلُّ هذا الجُّموح
في الوهجِ الإبداعي، ناجمٌ عن
خصوبةٍ شعريّة مخضوضرة في مخيالِ
شاعرٍ مترهبنٍ لألقِ القصيدة،
كأنَّ الشَّاعر مجبول بأسرارِ طين
الحروف، وكأنَّه في حالةِ مصالحةٍ
مفتوحة مع ذاته المستغرقة في
دوحةِ الأحلامِ، فتأتي مرامي
القصيدة مقمّطةً بأغصانِ الرّوح
العطشى إلى مزاميرَ توَّاقة إلى
أغصانِ الشِّعرِ الممتدِّ على مدى
استبصارِ تدفّقاتِ مآقي الأحلام!
( ووصلتُ إليكِ بدمعي
الأسْوَد، حاربتُ الوحش
طويلاً بأصابع موتي حتّى
حاصرني الفجرُ
رمالاً ترقصُ، أخرجني مِن منفاي
وألقاني قدّام الليل وحيداً في
نهرِ الريحِ. ومِن أجلكِ
رأسي كانَ شجاعاً
يرفضُ أنْ يؤوي قطّاعَ
الطرقِ البلهاء وباعةَ
ساعاتِ رمادٍ تتطايرُ وسط
العميان. وكانَ شجاعاً صنديداً:
إذْ كيفَ لرأسٍ مقطوعٍ مُرمى، في
نهرِ الريحِ تدلّى، لملاقاةِ
الموتِ يقومُ وحيداً؟ كيفَ
لرأسٍ مقطوعٍ أنْ يسمع، وسط الحومة،
أشجاراً مُثقلةً بطيورٍ
رُسِمتْ أسماءُ الحُبّ عليها
وطفولاتُ الماء؟ وكيفَ
لرأسٍ مقطوعٍ أنْ يدخل في
حلمٍ يصهر أزمنةَ الدنيا حتّى
يأتيكِ ويكشف غامضَكِ السرّيّ
وعريكِ عريّ أعمى؟
وصلَ الرأسُ إليكِ بطيرِ الحاءِ
وسحرِ الباء ومعجزةِ الكافِ
الكبرى. أمسكَ في شغفٍ نزواتكِ،
أربعةً مِن أطيافكِ، سبعاً مِن
لهجاتكِ، تاءً مِن لذّتكِ القصوى.
قامَ بأمطاركِ حتّى شفيتْ
صحراؤك مِن أمراضِ الدنيا.
قامَ الرأسُ إليّ
أخيراً، قبَّلَني، صاحَ
بأعضائي فتنبّهتُ مِن الموتِ
إليكِ، وجدتُكِ عاريةً قربي. رجعَ
الرأسُ إلى جسدي،
قالَ: أنا المعنى. فبكيت).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ أخبار
المعنى، ص 193 و 194 ).
أديب كمال الديِّن شاعر من قامة
الصّلصال، يفهرس حرفه من وهج
الحروف فوق جبين الصَّباح، كي
يترجمَ حنين الإنسان إلى جوهر
الإنسان المضرَّج بإشراقاتِ
الحروف، المغموس بيراعِ الشِّعرِ،
وآهات الوطن المكتنز بأهازيجَ
القصائد منذ آلاف السِّنين، شاعر
مفطور على أريجِ الحروفِ، يتماهى
الشِّعر مع بحبوحة حروفه، فينسج
من بهجةِ انبهارِ الحروفِ وجْداً
شعريَّاً باذخاً في اشتعالات بوح
القصيدة!
يتميّز شعره بطاقاتٍ غنَّاءة،
يموسق شعره بتوهُّجٍ فريد على
مساحاتٍ رحبة من لغةِ التَّمرُّدِ
على الأبواب المغلقة، مركّزاً على
استنارةش العقولِ، منجذباً إلى
تيجانِ العقلِ الممهورِ بالحكمة،
عابراً نحو أقصى ما في حقول
الجَّمالِ من دهشةِ ولاداتِ
القصائد، كي يكلِّلَ بناءه
الشِّعري بأهازيجَ بوحِ الرّوحِ
وهو في أوجِ تجلِّيات إنبعاثِ
الخيال!
(ينبغي لي أنْ أعقد مؤتمراً
أدعو إليه قلبي وأصابعي وعيوني
وأدعو إليه أساطيري وخرافاتي
وظنوني
وأدعو إليه أزمنتي وأباطيلي
ودفوفي وطبولي
وحروفي ونقاطي
لكي أفهم معنى الحاء
وأجلو مرآةَ الباء
وأطلق طائراً يربطُ الحاءَ
بالباء،
فيحملني بعيداً بعيداً حيث لا موت
ولا حياة
لا شمس ولا قمر
لا حاء ولا باء
لا أنا ولا أنتِ).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
112 ).
يهفو الشّاعر إلى طقوسِ العشق
وإلى إنبهار حفاوةِ الجِّمال،
فتنعكس هذه الطُّقوس المنعشة على
مزاميره العشقيّة عبر القصيدة،
مُبلسماً جراح الرُّوح بهلالات
الفرح، ململماً تراكمِ الآهاتِ كي
يبثَّ في تخومها ابتهالات حبق
القصيدة، مخفِّفاً من توجّساتِ
أنينِ الحياة، عابراً آفاق الحرفِ
من منظورِ سياقاتٍ شعريّة شاهقة
في مرامي التَّرميز، غارفاً قلمه
من روحانيّة أرضٍ بكر، معرّشة
بمذاق رؤى ممهورة بالصّفاء
المخضَّل بمعراجِ إشراقات
التَّصوُّف، كأنّه رفرفات روحٍ
مجبولة من شعشعاتِ طينِ الحياة!
تزدهي قصائد الشّاعر بدلالات
وترميزات وتحليقات رحبة، كأنّها
رسائل عشقٍ مندلقة من أسرارِ
غيمةٍ حبلى بأصفى شهقاتِ المطر.
يصيغ حرفه بطريقة غير مطروقة من
حيث العبور في مجاهيلَ بوحِ
الحرف، فتأتي القصيدة معتّقة
بروحانيّة صافية ومصهورة بحكمة
مسترسلة في نضارة العقل، وجانحة
نحو مخابئ الأسطورة وغارقة في
بحبوحة الجَّمال، فنشرب بكلِّ
فرحٍ نخبَ التَّجلِّي المنبلج من
حفاوةِ الحروفِ الَّتي يستنبط
منها عالماً فريداً في مراميه
وتماهياته وكأنّه يترجم لنا حالات
حلميّة سكرى من تجلّيات بهجة
الانتشاء، كما يسلِّطُ منارات
حرفه على تيجان الموت كي يضعَ
مجسّات رؤاه فوق أجنحة الحياة!
(يا نوني
ها أنتِ كبرتِ وتعبت
وبدأتْ الأحلامُ تركضُ بعيداً
عنك.
يا نقطتي وهلالي
لا مستقبل لكِ إلّا مع طفولة
الصعلوك
وجنون الشاعر
ورؤية الصوفيّ
ووميض الرائي).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
104).
يسترسل الشَّاعر في استلهام
صياغاته الشِّعرية من حروفه،
فيحلّق في فضاءاتٍ غير متوقّعة،
نراه يؤنسن حتّى الجّماد، ويبعث
في الجَّماداتِ روحاً مفعمة بألقِ
الحياة، عبر شغفه الكبير في مرامي
القصيدة.
تنسابُ حروفه عبر قصائده كأنّها
شيفرات مندلقة من أسرار كواكب غير
مرئيّة، تبدو كأحلام سرياليّة
منبعثة من شهوة النَّيازك فوق
رضاب الأرض. هل يريد أن يسبر
كُنْهَ الحياة وما بعد الحياة عبر
هلالات أجْرامه الحروفيّة،
مترجماً لنا حروفه بإسقاطات
شعريّة، كأنّها أجرام سماويّة
هبطَتْ علينا عن طريق أحلامنا
الباطنيّة، الَّتي تتواصل مع قوى
خفيّة لا تسبر كنهها إلا إشراقات
الشِّعر في أرقى تجلِّياتها،
ويبدو عبر تدفُّقات هواجسه
الشِّعريّة، أنّه في حالة شغف
وهيام وتواصل عشقي مع عوالم
شعريّة سحريّة، فيها من
التَّساؤلات والتّماهيات المدهشة
عبر مفارقاته الشِّعريّة الكثير
من المسارات الَّتي لا تخطر على
بال.
(كم مِن جهدٍ يلزمني كي أمسكَ
أياماً راحلةً
كقطارٍ مُسرع
أو مثل ظنون تتمطّى كغطيطِ
السكّير؟
كم مِن جهدٍ يلزمني لأغنّي
للقبّعةِ المرميّةِ في الريح؟
كم مِن جهدٍ يلزمني كي أذكرَ
شيئاً
مرّ هنا أحرقَ كلَّ الأشجارِ
وبخّرَ منها الفجرَ وأعطى
لربيعِ الحبّ نشيدَ السكّينْ؟
كي أنسى أنهاراً مرّتْ
وطيوراً قالتْ في أذني شيئاً،
أثداءً باركت النوم؟
كم مِن جهدٍ يلزمني كي أبكي أو
أضحك؟
كي أمسكَ كأساً مِن فرحٍ محمومْ،
كي أحرقَ أقنعتي في ليلٍ صافٍ
كالثلج،
أخطو في فجرٍ أسْوَد مجنون؟).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ ديوان
عربيّ، ص 264 و265)
يكتب الشّاعر نصّه الشِّعري،
برغبة عشقيّة لا تقاوم، إنّه
مصهور في حليبِ الشِّعرِ، ومعجون
برحيقِ الحلمِ المنساب من ظلال
الحروف وهي تنهال في بؤرة الخيال،
فيصيغ منها ألقه المستثار من
مساراتٍ متعدّدة، حتَّى ليكاد
يصعب على القارئ تلمُّس تشكيلات
خضاب القصيدة، فهي أشبه ما تكون
في الكثير من براريها لوحات
سرياليّة غارقة من بحبوحة الحلم،
وكأنّها تماوجات هبوب نسيم ندي في
صباحٍ ربيعي، مسربل بحفاوة
النَّفل وأريجِ الزَّنبق البرّي.
توقّفت عند لغة الشَّاعر
الطَّيّعة لهلالات بوح القصيدة من
خلال ولوجه عميقاً في استنطاق
شهيق الحروف، مروِّضاً رؤاه
بتقنيات مدهشة في بناء حرفه
المكلَّل بأسرارِ حنين الرُّوح
إلى صحارى براري الحلم، فيدهشك
بهذه القدرة على صياغة عوالمه دون
أن يقع في فخاخ التِّكرار، بل
نراه متجَدِّد الصُّور والأفكار،
فنتوه ببهجة ومتعة غامرة في
متاهات فضاءاته المسربلة بدهشة
غير متوقّعة، بلغةٍ رشيقة،
عفويّة، غير مطلسمة، عميقة الغور
رغم بساطة التَّعبير، فنسير معه
نحو الشَّواطئ العذبة وكأنّنا في
رحلة استكشاف تجلِّيات أحلام بوح
الرُّوح:
(في حلمي، البارحة، رأيتُ قلبي
وقد أُصيبَ بسهمٍ.
ولمّا استيقظتُ وجدتُ فراشي
وقد تحوّلَ إلى قطعةِ دم
وقلبي قد تحوّلَ إلى قطعةِ حلم).
(الأعمال الشعرية الكاملة/ نون، ص
108)
يفكُّ الشَّاعر ما يمور في مسارات
الحروف، من هواجس وطلاسم ومعاني
جمّة، يبني أبراج القصيدة
بتأمُّلٍ عميق، شهقةً شهقة، كأنّه
تمرَّس طويلاً في تماهيه مع
أسرارِ الحرف إلى أن إستطاع أن
يستدرج تشعُّبات مرامي الحروف إلى
حقولِ التَّرويضِ، فيبني لآلئه
بشغفٍ كبير وبإيقاعاتٍ تجريديّة،
سرياليّة حالمة، فتغدو القصيدة
كرفرفات أسراب الطُّيور وهي
تحلِّق فوقَ أمواجِ البحارِ تارةً
وفوقَ بهاءِ الغيومِ تارةً أخرى،
فتأتي قصائده مغموسة ومُبلسمة
بحبرِ الحياة، وهو أشبه ما يكون
شجرة مبرعمة فوق شموخ الجِّبال،
يريد أن يظلِّل الطُّيور
المغرِّدة تحتَ ظلالِ أغصانه
الوارفة بأبهى ما في الحروفِ من
مرامي الاخضرار.
ستوكهولم كانون الأوَّل (ديسمبر)
2014
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في
ستوكهولم
sabriyousef56@hotmail.com