1.
كانَ الذئبُ يمشي على شاطئ البحر
حينَ استغاثَ به الغريق.
ضحكَ الذئبُ ممّا يرى.
لكنَّ الغريق صرخ:
أنقذني من البحر!
ضحكَ الذئبُ ثانيةً وقال:
أنا هو البحر!
2.
أن تُطلقَ النارَ على رأسِك
أهون مِن أن تكتبَ القصيدةَ ذاتها
ألفَ مَرّة
بحرفٍ واحد
ونقطةٍ واحدة.
3.
الحريقُ يتكرّر.
النارُ تبزغُ هذي المرّة
من النافذةِ أو من الجدار.
لكنّها ليست النار التي عرفتُها،
فالنار لبستْ ثياباً تنكّريّة
لا يخرجُ منها اللهبُ أو الدخان
لكنَّ لسعتها، بالطبع،
أشدّ ضراوة ووحشيّة.
4.
ماتَ كاتبُ الشيزوفرينيا
بعد أن بلغَ من العمرِ عِتيّا.
كانَ يتحدّثُ عن الحُبِّ ويمارسُ الكراهية،
كانَ يترجمُ للعُشّاقِ ويرقصُ مع الجلّادين،
كانَ يبكي أمامَ الله
ليرفع نخبَه عالياً للطاغية.
5.
في شبابي
حزمتُ حقائبي
لأسافرَ إلى بلدِ غوته وشيلر.
لكنَّ المعريّ ذكّرني بعماه وعماي،
وديك الجنّ قرأَ عليَّ سرّاً
مرثيتَه المُرعبة،
والسيّاب أربكني بجوعه وإفلاسه،
فهجاني الحُطيئة،
بعدَ أن نسيتُ أمرَ السفرِ إلى الأبد،
هجاني كما يقتضي الحال.
6.
عن مرآتِكِ الكبيرة
كتبتُ الكثير
لأنّها علّمتني الكثير.
لكنني أحاول أنْ أنساها
وأنسى شظاياها المُتناثرةَ هنا وهناك:
في الفراشِ
وفوقَ الطاولة
وفي جوازِ السفر
وفي كتابِ أعمالي الشعريّةِ الكاملة.
7.
طاردتني كلابُ الدهرِ طويلاً في الصحراء،
لكنَّ مشهد القمرِ بازغاً سَحَرني
فوقعتْ قصيدتي فريسةً للمُطاردةِ الوحشيّة
والتأمّل الفضّيّ.
8.
أن تكونَ من دونِ قدمين
ويُطلَبُ منكَ كلّ يوم
أن تمشي على حبلِ السيركِ الشاهق
وتحتكَ النار والطبول والجمهور:
تلك هي القصيدة.
9.
لا تضعْ لقصائدكَ أرقاماً ولا عناوين
لأنّ حروف قصائدك
مُتشابهة حدّ اللعنة
مثلما قطرات دمِكَ مُتشابهة هي الأخرى
حدّ اللعنة.
10.
أتذكّرُكِ:
كنتِ هنا تمشين،
وأحياناً تكتبين كلماتِ الأغنية
وأحياناً تتعرّين
وأحياناً تحاولين الإصغاءَ إليّ
وأحياناً تنامين بجانبي كقطّةٍ مُتعَبة.
أتذكّرُكِ جيّداً
بأسمائكِ التي لا تنتهي
وبوجوهكِ التي لا حصر لها،
أتذكّركِ حدّ النسيان.
11.
يحاولُ الشِّعْرُ أن ينقذني ممّا أنا فيه.
أشكرُهُ كثيراً
وأحاولُ أنْ أصافحه فأمدّ يدي
فأنتبه إلى أنَّ أصابعه
أصابع مُتشرّدٍ
ينامُ في الشارعِ عارياً،
عارياً تماماً.
12.
الموتُ لا يشبهُ الذئبَ ولا الأفعى،
الموتُ يشبهُ نَفْسه فقط.
ذلك هو بيتُ القصيد.
13.
صور الموتِ التي يعرضُها التلفزيونُ كثيرة:
الموتى في كلِّ مكان،
في الشوارعِ والمقابرِ والشققِ السكنيّة،
في وفي وفي...
حتّى بدأتُ أشكُّ بأنَّ هذه الصور
هي إعلان تجاريّ لشركةِ عزرائيل الكبرى.
14.
لم يبقَ منكِ شيء
سوى شظايا حلم.
أجمعُها فوقَ سريري كلّ صباح
بلطفٍ شديدٍ
لأنّها عبارة عن رمادٍ خالص.
15.
طوالَ حياتي لم أفعلْ شيئاً
سوى أنني تركتُ جسدي الجريح
ينزفُ وهو يغرقُ في الفرات،
يغرقُ أمامَ عيني
كطائرٍ ميّت.
16.
في زمننا المُعَولَم
توقّف الشاعرُ عن الحلم،
فتوقّفت القصيدة
عند إشارة المرور الحمراء طويلاً
حتّى قيلَ إنّها أخذتْ تتسوّلُ من العابرين.
17.
حينَ استلمتُ مجموعتي الجديدة
اكتشفتُ أنَّ الناشرَ قد وضعَ اسمي
كعنوان للقصيدة،
ووضعَ القصيدةَ كعنوان للحرف،
ووضعَ الحرفَ كعنوان للنقطة،
ووضعَ النقطةَ كعنوان لي.
18.
كيفَ لي أنْ أكفكفَ دموعَكِ
وأنا الأخرسُ الذي خُلِقَ من دونِ يدين
ولا قدمين؟
19.
كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الألم.
20.
كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الشمس.
21.
كلُّ حرفٍ
لا يتبسملُ بمحبّةِ الذي يقول
للشيء كنْ فيكون،
ليسَ بحرف.
هذا ما قاله الشاعرُ الذي أقاموا له
تمثالاً كبيراً من الحسدِ والكراهية.
22.
حينَ امتلأَ قلبي بالجمر
فاحتْ رائحةُ القصيدةِ بالشوق.
23.
حينَ أُلقِيتُ على بابكِ مَجنوناً
ضربني العابرون بالحجارة
حتّى سال منّي الدم
ثُمَّ نصبوا لي صليباً مِن الهذيان.
24.
أرادَ صديقي الناقدُ أن يكتبَ عن قصائدي
فاكتشفَ أنَّ الكتابةَ عنها
تشبهُ السيرَ على حبلِ السيركِ الشاهق
فوقَ النارِ والطبولِ والجمهور.
فارتبكَ
وهو لم يزلْ على بابِ السيرك
وبيده بطاقة الدخول.
25.
كيف تستطيعُ أن تصفَ الغابة
دونَ أن تذكرَ فيها أسماءَ الشجرِ والزهور
ودونَ أن ترسمَ ريشَ الغرابِ والحمامة؟
كيف؟
26.
في الغربة
انتهتْ أحلامي كلّها،
فاضطررتُ إلى أنْ أرتّقَ أحلامي العتيقة
واحداً واحداً.
وكلّما رتّقتُ حلماً قبّلتُه
كما يقبّلُ العاشقُ معشوقتَه
ثُمَّ ألقيتُه بهدوءٍ في البحر.
27.
حينَ قرّرَ مُعدُّ الأنطولوجيا
أن يختارَ لي قصيدةً،
اختارَ لي قصيدةً قديمة،
قديمةً جدّاً.
لا أعرفُ لماذا اختارها:
ألِأنّها كانتْ موشومة بدمِ أنكيدو
ودموعِ كلكامش؟
28.
بعدَ خراب البصرة
وخراب بغداد
وخراب روما
وخراب سدني،
جلستُ بهدوءٍ أرتّبُ حياتي.
29.
قالتْ لي القارئةُ العاشقة:
قصائدُكَ ذات صورٍ لا تُنسى
وبحرُها غامضٌ ومُخيف،
لكنّها لا تصلح للحُبّ.
لأنّ قصائدَ الحُبّ
ينبغي أن تكونَ بسيطةً حدّ السذاجة
وعاريةً حدّ الهذيان.
30.
لكثرةِ ما أرى الغربانَ في أحلامي
قرّرتُ أن أصبغَ ليلي
باللونِ الأبيض!
|