في المقطع السادس والسابع تتماثل
النتيجة، هو يورث الأشياء ويهديها
لكنه يواجه بالرفض من قبل المُهدى
اليه، وهو يقصد بذلك ان حالة
الرفض امتدت إلى غيره، اي إلى مَن
يحيط به ، ولعلَّ سلة المهملات
تعني الشيء الكثير لكنها هنا
تتبعد عن كونها وعاءً يحوي
النفايات إلى حاوية لبعث الوعي في
ما يدور.
7.
حينَ قُتِلَ لوركا
أورثني الرصاصاتِ التي قتلته.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.
ثُمَّ خطرَ ببالي
أنْ أهديها إلى مديرِ متحفِ
الشعراءِ في العالم،
فَذُهِلَ بالرصاصات
وذُهِلَ أكثر حينَ رأى دمَ لوركا
عليها.
لكنّه بقي صامتاً كصمتِ القبور.
هكذا غادرتُ مكتبَه الزجاجيّ
الأنيق
وتركتُه مَذهولاً بعينيه
الحجريتين
وقلبه الأخرس.
الرصاصات التي قتلت لوركا، قُبلت
لكن دون عاطفة: (تركتُه مذهولاً
بعينيه الحجريتين وقلبه الأخرس)،
ربما هي إشارة إلى الرعب وحالة
الذهول التي يسوقنا اليها الموت
العنيف بمظاهره التي انفرد
بتشكّلها، دون ان يكون للشعراء
بعد لوركا تواجداً يقتفي أثره.
(وذُهِلَ أكثر حينَ رأى دمَ لوركا
عليها). إنّ لغة الدم هذه تجسيد
لحالة الغثيان التي اشار اليها
الشاعر وكأنّ (مدير متحف الشعراء)
ليس مسؤولا الا عن من يرمز اليهم،
وهو ليس بشاعر.
8.
حينَ ماتَ السندباد
أورثني كتابَ حكاياته الساحرة
عن الذهبِ والفضّةِ والنساء.
فقرّرتُ أنْ أركبَ البحر
إلى حيث أبحر السندباد.
لكنني لم أجد الذهبَ والفضّةَ
والنساء
بل وجدتُ كتاباً عَتيقاً
كتبهُ مؤرّخُ أهلِ البلادِ يقول:
هنا وصلَ السندباد.
ولكثرةِ أكاذيبه وخزعبلاته
ونزواته
أقمنا له حفلةً وشويناه.
البحر يشير إلى الخلود، وقد يكون
الشاعر يرمز إلى ذلك، لكنه
بالنتيجة يخلص إلى أن الخلود هو
أكذوبة نبحث عنها لكن دون
نحققها. ومع أن أديب كمال الدين،
حاول ان يستثمر هذا التوريث
المصطنع ليوصل المتلقّي إلى فكرة
المواجهة مع المجهول، ب (حكاياته
الساحرة) بعد كان الموروث كتابا
عتيقا والبحث عن الأشياء الثمينة،
من المحتمل أن تكون الأحلام، (
الذهب والفضة والنساء) سراباً لا
يتحقق الوصول اليه.
9.
حينَ ماتَ بيكيت
أورثني مسرحيتَه العُظمى
ومُهرّجيه المَساكين وهذيانهم
المُركّز.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بكلِّ ذلك.
لكنني ذات حياةٍ
كتبتُ مسرحيةً حُروفيّةً كبرى
عن الانتظارِ العبثيّ،
مسرحية لم يشاهدها أحد
لأنّه لم يمثّلها أحد.
ومن البحر وحكاياه الساحرة
والسندباد وما ورث منهم، يذهب
أديب كمال الدين إلى المسرح ، حيث
صموئيل بيكت، في انتظار غودو،
ومعنى مسرحيته المبطن، وبما ان
الجميع ينتظر شيئاً ما، لكن يبقى
الانتظار ملاذا لا يمكن النظر إلى
جدرانه، فهذا الموروث جعلت الشاعر
يحتار، غير
أن حيرته انتهت عندما
مثّل الانتظار شخصاً ما، ربما
يكون الشاعر ( كتبتُ مسرحيّةً
حروفيّةً كبرى) (عن الانتظارِ
العبثيّ) يوصف هذا الانتظار
بالعبثيّ، والمسرحية، مسرحها
الحياة، كلنا يمثّلها بطريقته
الخاصة، لكن دائما هناك مَن ينتقد
تمثيل أدوارنا، وبناء على ذلك
يمكن ان نفسّر قوله: (مسرحية لم
يشاهدها أحد، لأنّه لم يمثّلها
أحد).
10.
حينَ انتحرَ همنغواي
أورثني البندقيةَ التي انتحرَ بها.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.
ثُمَّ خطرَ ببالي أنْ أجرّبَ
إطلاقَ النار
على رأسي
كما فعلَ همنغواي قَبْلي.
لكنني حزنتُ
بل بكيتُ بُكاءً مُرّاً
حين وجدتُ البندقيةَ خاليةً مِن
الطلقات.
يعود بنا الشاعر إلى حالة
الانتحار ولكن هذه المرّة على
نحوٍ أكثر دموية وعنفا، فالأديب
أرنست همنغواي، صاحب الرواية
الشهيرة الشيخ والبحر، كان يعيش
صراعا حقيقيا في اثبات الوجود،
محاولا ان يبلور فكرة أن الرجل
قادر على عمل المستحيل حتى في سن
الشيخوخة، مشبّها ذلك بأسود
أفريقيا، ولكن لماذا انتهى
منتحرا؟
يقول الشاعر أديب كمال
الدين، (خطرَ ببالي أنْ أجرّبَ
إطلاقَ النارِ على رأسي) وهنا
عملية تخيّل، أو نية، قبل الفعل،
ويتّضح ان حالة الانتحار قد أخذت
حيزا من وارثي الشاعر، طبعا موتهم
، لكنها كانت محاولة رائعة من
الشاعر للتصدي لموروث كهذا، خاصّة
وان الانسانية تحتاج البشر ككائن
فاعل ينجز رسالته على أكمل وجه،
فوجد – أي الشاعر- في محاكاة رغبة
هؤلاء المثقفين جسرا للعبور نحو
التخلص من انفعالات النفس
وتأثيراتها السلبية، ( حين وجدتُ
البندقيةَ خاليةً من الطلقات).
هنا
تكمن الرسالة.
11.
حينَ ماتَ جان دمّو غريباً
في بلادِ الكنغر
أورثني قنّينةَ الخمرِ الفارغة.
فتبرّعتُ بها على الفور
إلى جمعيةِ الكحوليين في العالم
ففرحوا بها ورقصوا بصخبٍ هائل
وهم يتبادلون الشتائم والسباب.
جان دمّو هذا الكائن الراحل بروحه
بعيدا عن الوطن، يورث قنينة الخمر
( أورثني قنّينةَ الخمرِ
الفارغة). لم تكن مخمورة هذه
القنينة، هنا حاول الشاعر كمال
الدين أن يمنح الفضاء الفكري
النقاء، ولم يحتفظ بها، دليلنا
على ذلك قوله: ( فتبرّعتُ بها على
الفور) إلى مَن يعتقدون بأن الخمر
يخلّصهم أو يريحهم من الضغط
النفسي، لكنهم، أي أعضاء (جمعية
الكحوليين) حين اكتشفوا أنها
فارغة، تبادلوا (الشتائم والسباب)
بينهم، وتلك إشارة إلى الباعث
الديني لدى الشاعر.
12.
حينَ قُتِلَ محمود البريكان
أورثني قصيدتَه: "حارس الفنار".
فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.
لكنّه زارني، وهو الميّت،
في لحظتي الشعريّة
وأمسكَ بيدي
لأكتبَ عنه قصيدتي:
"حارس
الفنار قتيلاً".
من كركوك، حيث جان دمّو، إلى
البصرة،
يأتي وارث آخر هو الراحل
محمود البريكان، ليهب ، حارس
الفنار، ولكن هذا الوارث لم يمت
منتحرا بل قُتِلَ، وهذا التحول في
مصير الوارثين،
انتقاه الشاعر بعناية من أجل
رسالة النص الأساسية التي ينبغي
على الذات المتلقية فهمها وإدراك
مغزاها، بعيدا عن التأويلات التي
لا تقود إلى اهداف الشعراء من
كتابة النصوص، لأن المتلقي في
الحقيقة يريد معرفة ما المقصود
بهذا النص أو ذاك: (حارس الفنار
قتيلاُ).
13.
حينَ ماتَ التوحيديّ
أورثني بقايا كتبه المُحترقة.
فلم أدرِ ما أفعلُ بها.
جلستُ قبالتها
وكتبتُ بعينين دامعتين
قصيدةً عن الدخانِ المُتصاعدِ
منها.
وكلّما مرَّ قومٌ سخروا منّي
وقالوا: مجنونٌ أحرقَ كتبَه
وآخر يبكي عليها.
هذا الوداع الحزين، يرسم للمتلقّي
الناحية النفسية للذات الناطقة
عند كتابة النص، مضافا اليه عظم
الفاجعة فالوارث هنا، مختلف تماما
عن بقية الوارثين، واحتراق الكتاب
موضوع لم يسلّط عليه الضوء كثيرا،
فقط توجد إشارات، وقد يجد المتلقي
هنا عمق المأساة وهي تعرض وجهة
نظر من قالوا ( مجنونٌ أحرقَ
كتبه،
وآخر يبكي عليها).
14.
حينَ صُلِبَ الحَلّاجُ وأُحرِقَ
أورثني رمادَ جُثّته.
فاحترتُ بأمرِ هذا الرماد.
لكنني ذات غروبٍ
وضعتُه في أكياسٍ صغيرة
وذرّيتُه في دجلة.
ذرّيتُ كلّ سنةٍ كيساً
ولم أزلْ على هذا الحال:
لا أنا أموت
ولا الأكياس تنتهي.
ويُعاد المشهد ذاته، مشهد
الاحتراق، لكن هذه المرّة، حرق
جثّة، وهي جريمة ابشع، فالوارث،
الحلّاج، منح الوريث رمادَ جثّته
(أورثني رمادَ جثّته). والوريث في
حيرة، يبدو ان هذا الحيرة يُقصد
منها، البحث في اسباب عملية
الحرق، اكثر منها قيمة الورث
الشنيع، وقد حاول الشاعر ان يمنح
الحلّاج خلودا أبديا، من خلال
الماء.
15.
حينَ ماتَ كلكامش
أورثني خيبتَه
وبحثَه العبثيّ عن سرِّ الخلود.
لم أستطعْ أنْ أفعلَ شيئاً لخيبته
لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ
والشفتين،
ولم أفكّر يوماً بسرِّ الخلود.
ففي زمنِ العَولَمَة،
الخلودُ ، فقط ، للدجّالين
والمُهرّجين والسفَلَة.
يربط الشاعر هنا بين الماضي
والحاضر محاولاً البحث أو
المقارنة بين ما فعله
كلكامش، وبين ما يحدث
الان في زمن العولمة، فالخلود أمر
مختلف عند الاثنين، الأول: (بحثه
العبثيّ عن الخلود)، والثاني:
(الخلود، فقط، للدجّالين،
والمُهرّجين والسَفَلة). بينما
الشاعر يقول: (لم أفكّرْ يوماً
بسرِّ الخلود) لأنه عاش الزمن
الأخير، ولكن عند العودة إلى
المقاطع الأولى نجد اشارات الشاعر
إلى ما يرمز إلى الخلود كالبحر
مثلا. اذن يمكننا القول إن هذا
التناقض قد وُظِّفَ لمصلحة
الوارث.
16.
حينَ ماتَ أبي
لم يورثني شيئاً سوى دمعته.
فاحترتُ بها
لكنني ذات فجرٍ
وضعتُ الدمعةَ في كفّي
ومددتُ كفّي إلى الله،
إلى ما شاءَ الله.
فعادتْ إليَّ بعشراتِ الحروف
ومئاتِ القصائد.
أما هنا فالنص واضح جدا فالوارث،
الأب، والوريث الأبن، والرعاية
(ومددتُ كفّي إلى الله). طبعا
الكفّ الذي وضعت فيها الدمعة،
وعلى الرغم من أن دلالة الدمعة
تحمل معنى (الحزن والفرح) معا،
لكن الله حوّلها إلى كنز يجلس فيه
الشاعر على عرش الشعر: (فعادتْ
إليَّ بعشراتِ الحروف ومئاتِ
القصائد).
17.
حينَ ماتَ الألفُ أورثني همزتَه.
فاحترتُ بأمرِها.
وحين وجدتُ جَسَدي
جُثّةً مُلقاةً في الشارع،
تعمَّمَتُ بالهمزة بعد جهدٍ جهيد.
فأفقتُ مِن مَوتي،
وبدأتُ أكتبُ نَفْسي بنَفْسي
وأغنّي نَفْسي لنَفْسي.
18.
حينَ ماتت الحاء
أورثتني مَوتاً مُضافاً إلى مَوتي.
ولأنني قد اعتدتُ على مشهدِ الموت
منذ الطفولة،
لذا لم أحترْ كثيراً
وقرّرتُ أنْ أجمّده في ثلّاجةِ
الذاكرة
بدلاً مِن ثلّاجةِ الموتى.
19.
وأخيراً حينَ ماتت النقطة
أورثتني سرَّها الخطير،
فاحترتُ ماذا أفعلُ به.
ثُمَّ قرّرتُ أنْ أتبرعَ به إلى
روحي.
لكنني لم أجدْ روحي
لأنّها، كما أخبرتني الملائكة،
ماتتْ منذ زمنٍ طويل
وتحوّلتْ إلى حرفٍ مِن تُراب.
في المقاطع الثلاث الأخيرة، يجد
المتلقّي ما يمكن ان نسمّيه ثروة
والده، ورعاية الله لذلك، وهي
نصوص (الألف والحاء والنقطة)
لينتقل إلى العيش إلى الأبد مع
ورثه، وهنا يجب ان نترك للمتلقّي
فرصة الاستمتاع، بعد هذه الرحلة
الطويلة والتي استغرقت مني ثماني
ساعات من الكتابة والتأمل، في نصّ
الشاعر الأديب.. أديب كمال
الدين.. وهي رحلة جنيتُ منها
المتعة، وأتمنى ان يجد المتلقّي
النتيجة ذاتها، وعذرا للكلمة التي
هي زادنا المفضل، في منحها
البساطة بغية إدراك المعنى.
لقد تعاملتُ مع النصّ ولم
أتعامل مع أخي الشاعر الكبير كمال
الدين، فهذا النصّ رسالة روحية
مفعمة بالإنسانية واستذكار رائع
لمَن تربطنا بهم الكلمة والأحاسيس
الصادقة في مختلف بقاع هذا العالم
الجميل.